الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

حلُّ الدولتين فرصة سلام أم خدعة استراتيجية؟




أن مرجعيّة " حل الدولتين " هو المبدأ الأساس الذي تعتمد عليه جميع مبادرات السلام الدولية والعربية، وهو ما يعني قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 (حدود ما قبل حرب النكسة)، فيما يحتفظ الصهاينة بالأراضي التي احتلوها قبل ذلك.
وتُعتبر قرارات مجلس الأمن الدولي في هذا الخصوص المرجعية القانونية لمشروع السلام في المنطقة، إذ أنها تشير إلى الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 على أنها أراضٍ محتلة، وتطالب إسرائيل بالانسحاب منها.

ولكن دولة الاحتلال لم تعترف ولغاية اليوم بحق الفلسطينيين في قيام دولتهم على حدود عام 1967 رغم ماراثونات المفاوضات المستمر منذ مدريد إلى اليوم، ولم تعط أية ضمانات أو وعود أو عهود بذلك، حتى مع توقيعها اتفاقية أوسلو التي اعترفت من خلالها بسلطة حكم محلي فقط، أو ذاتي للفلسطينيين وفي أجزاء من الضفة الغربية وغزة، مع تأجيل النظر في ملفّي القدس واللاجئين.

فهل يمتلك حل الدولتين مؤهلات النجاح من وجهة نظر واقعية؟
مع ملاحظة أني هنا لا أتحدث عن الحق التاريخي في فلسطين، ولا عن بطلان المشروع الصهيوني، وجرائمه الاستعمارية، ولكني أحاول استعراض فرص مشروع  السلام انطلاقاً من ثوابته ومسلّماته.

الجغرافيا والتاريخ

تشكل مساحة فلسطين المحتلة بعد عام 1967 نحو 22% فقط من مساحة فلسطين التاريخية، مما يُفقد الدولة الفلسطينية "المفترضة" الشرعية والقبول لدى غالبية الشعب الفلسطيني، وهذا يجعل من قبول أي قيادة فلسطينية لهذا الحل في أي زمان ومكان مثار اعتراض وشكوك، وتساؤل عن أدنى شروط العدالة والانصاف التاريخي.

ليس هذا فحسب بل إن جغرافية المنطقة لا تسمح بقيام دولة مستقلة ذات سيادة بالمعنى الحقيقي لعدم وجود عمق جغرافي، مما يجعل من الصعب بمكان قيام دولة قادرة على العيش والاستمرار والاعتماد على نفسها في هذه المساحة الضيقة، فالضفة الغربية لا تملك مقومات قيام دولة مستقلة، لا من ناحية المساحة ولا الموارد، ناهيك عن البعد الجغرافي عن قطاع غزة، والذي سيؤدي في حال قيام الدولة إلى انفصالها الى دولتين.

الكثافة السكانية

يصل عدد سكان الضفة الغربية وغزة نحو 4.5 مليون نسمة يتواجدون على أراضٍ مساحتها نحو 6220 كلم مربع، بكثافة سكانية تصل إلى 723 نسمة في كل كم، بينما الكثافة السكانية في دولة الاحتلال لا تتجاوز نصف ذلك، وهذا يجعل من مسألة الكثافة السكانية عائقاً آخراً أمام قيام الدولة الفلسطينية، دون الخوض في مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين.

البُعد الديني

يؤمن الصهاينة أن لهم حقاً تاريخياً في فلسطين، وهذا الحق هو حق ديني مكتسب من الوعد الإلهي لأبناء إبراهيم، ومن هنا فإن القدس التي تحتوي على مقامات لأنبياء بني اسرائيل، وحائط المبكى وهيكل سليمان "المزعوم" تعتبر مدينة مقدسة يكتسب من خلالها المشروع الصهيوني أحقيته الدينية في قيام الدولة اليهودية.
وهذا يجعل من مسألة التخلّي عن مدينة القدس، أمراً مرفوضاً إذ أنه يتنافى مع البروباغندا الصهيونية التي تدعو إلى إقامة دولة يهودية أو وطن قومي لليهود على الأرض الموعودة.

الطاقة والمصادر الطبيعية

بالنظر إلى مصادر المياه المتاحة في فلسطين فإن نصيب أراضي الضفة الغربية لا يكاد يقارن بباقي مناطق فلسطين المحتلة عدا عن إطلالة فلسطين التاريخية على البحرين الأبيض المتوسط والأحمر. وهذا يجعل من مشكلة ندرة المياه والجفاف عائقاً أساسياً في وجه قيام الدولة الفلسطينية المفترضة.

أما منفذ غزة على البحر الأبيض المتوسط، فتلك قصة أخرى، إذ إن اكتشاف دولة الاحتلال لحقول الغاز الطبيعي قبالة شواطئ غزة، وتمكّنها من انتاج وتسويق هذا الغاز "المسروق" والذي يقول الخبراء أنه يؤمّن حاجة دولة الاحتلال للطاقة لمدة لا تقل عن خمسين عاماً قادمة، سيجعل من اعتراف دولة الاحتلال بالسيطرة الفلسطينية على المنفذ البحري لقطاع غزة، أمراً مستحيلاً!

وبالإضافة إلى آبار الغاز تلك، فإن أرض فلسطين غنيّة بالطبيعة المتنوعة والمناخ المتعدد، الأمر الذي ساعد دولة الاحتلال على تنفيذ عدة مشاريع استراتيجية، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ومجموعة أخرى من المشاريع الزراعية والصناعية الضخمة في غور الأردن وعلى ضفاف البحر الميت وعلى موانئ البحر الأحمر، والذي تستغله أيضاً في إرساء مشاريع اقتصادية وزراعية وسياحية مع دول الجنوب الأفريقي.

هذا التنوّع في مصادر الطاقة والجغرافيا والمناخ، يجعل من مقارنة نصيب دولة الاحتلال، في مقابل ما يُفترض أن يكون دولة فلسطينية مستقلة، أشبه ما يكون بالقسمة الضيزى!

المستوطنات

قامت دولة الاحتلال الصهيوني على فكرة (أرض بلا شعب (فلسطين) لشعب بلا أرض (اليهود))، ومن هنا فقد عمد المشروع الصهيوني منذ عهد الانتداب البريطاني إلى استيعاب المهاجرين اليهود من كافة إنحاء العالم في مستوطنات متاخمة للسكان الفلسطينيين الأصليين، مما جعل شبكة المستوطنات اليوم في فلسطين أشبه ما تكون بالشبكة العنقودية التي لا تخلو منها مدينة او بقعة على أرض فلسطين.

وبالنظر إلى هذا الوضع القائم على الأرض، فلا توجد أبداً أية خطة عملية يمكن من خلالها استئصال هذا الورم السرطاني من الدولة الفلسطينية. وللاستدلال على ذلك نقول إن هناك نحو 750 ألف مستوطن يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية وغزة، وإن الكيان الاستيطاني يعزل سكان القدس عن مدينتهم الأثرية، ويفصلهم عن التراث الثقافي والتاريخي الديني للمدينة المقدّسة، كما إنه من المُرجّح وبشكل كبير أن ينتهي به المطاف إلى فصل الضفة الغربية بأكملها إلى منطقتين منفصلتين، مما يجعل الدولة الفلسطينية المفترضة أشبه ما تكون بالكانتونات المُغلقة!

قضية اللاجئين والعودة

تعتبر هذه القضية أكثر القضايا الشائكة لحل الدولتين، حيث ترفض دولة الاحتلال الاعتراف بحق الفلسطينيين الذين هُجّروا وشرّدوا من أراضيهم في العودة إلى بلادهم، ناهيك عن تعويضهم، وفي المقابل فإنها تطالب دول الجوار بتوطين هؤلاء المهجرين واستيعابهم في مكان إقامتهم.

وعلى النقيض من ذلك، وبناء على مبدأ يهودية الدولة، تمنح دولة الاحتلال حق المواطنة لكل يهود العالم، وتعمل كل جهدها لإقناع اليهود في العالم للجوء إليها والعيش على أراضي فلسطين التاريخية، وهي من أجل ذلك لم تضع لها حدوداً رسمية تعترف بها، فهي دولة هلامية خبيثة تتمدد وتتضخم استجابة لمتطلباتها الديمغرافية والسياسية أو حتى الدينية.
   
إن الباحث في الصراع العربي الإسرائيلي ومبادرات السلام المختلفة، يدرك وبشكل قاطع أن دولة الاحتلال لم تؤمن يوماً بحل الدولتين او بأي حل سلمي للصراع، ويدرك أيضاً أن الهدف من وراء هذه المبادرات وماراثونات المفاوضات، كان واحداً من إثنين: إما دفع الفلسطينيين للاستسلام الكامل والخضوع، ومن ثم الانصهار في الدولة الصهيونية ليعاملوا معاملة مواطني الدرجة الرابعة، ويعيشوا داخل (غيتوهات) مشابهة للتي عاش فيها اليهود في أوروبا القديمة، أو إعلان الرفض التام للتفاوض وحينها سيتخذ الصهاينة من هذا الرفض ذريعةً لاستمرار الاحتلال وإبقاء الوضع كما هو عليه، وفي كلتا الحالتين فإن هدف المشروع الصهيوني في العبور إلى العالم العربي والتواصل الطبيعي معه، سيتحقق ولو من باب التعامل مع الأمر الواقع!

إن مسألة السلام والمفاوضات برمتها، خدعة استراتيجية عظمى، ولعل من سخريتها الشديدة أن تكون أمريكا هي الراعية لمبادرات السلام والضامن لها، بينما في الحقيقة تقف أمريكا وإسرائيل في ضفة واحدة في مواجهة العرب والفلسطينيين (إن لم يكن العالم أجمع)، والمفترض أن يكون هناك طرف ثالث محايد لإدارة المفاوضات لا أن يكون القاضي هو أحد أطراف النزاع!

وبرغم كل ما ذكرناه من تحديات وعوائق تجعل من حل الدولتين مستحيلاً من الناحية العملية، إلا انه لسبب أو لآخر يستمر الساسة في كل عصر في محاولة إقناع أنفسهم (وأنفسنا بالضرورة) بإمكانية إيجاد حل سلمي وإقامة دولة فلسطينية بالتراضي مع العدو الصهيوني، والمصيبة الكبرى أن الكثير من عموم الشعب العربي بات يؤمن بهذه الفرضية وبشدّة، ولعلّه في المستقبل القريب يلوم الفلسطينيين على تشدّدهم وصلفهم!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
7-10-2019

الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

من يحكمُ العالم؟

انشغل السياسيون والكُتّاب والمثقفون في كل عصر في دراسة الأوضاع السياسية والاقتصادية في العالم، سعياً وراء فهم التحالفات الدولية والإقليمية، وموازين القوى المختلفة، في محاولة لاستشراف مستقبل العالم والتنبؤ بالقوى الصاعدة وقدرتها على تغيير قواعد اللعبة، بما يُفضي إلى بزوغ نجم زعامات جديدة.
في المقابل ينشغل العالم الثالث (البعيد عن مراكز التأثير في العالم) في الحديث والبحث عن مراكز القوى الخفيّة (اللوبيات والحركات السرية التي تقود العالم في الخفاء) والتي تؤثر في نهج السياسة الدولية، وكل ذلك ينضوي ضمن ما يُعرف ب "نظرية المؤامرة" التي يُفضّل أصحابها توجيه أصابع الاتهام إلى المؤامرات والقوى الخفية بدلا من الاعتراف بالفجوة الحضارية القائمة، ومعالجة أسبابها الحقيقية.

في عصرنا الحاضر، أشار الكثير من المُفكّرين والباحثين إلى تصاعد قوى جديدة في العالم مثل الصين واليابان والهند وتركيا والبرازيل، واقتصاديات شرق آسيا، مقابل أزمات حقيقية تعيشها أوروبا الغربية وأمريكا، إضافة إلى أزمات روسيا القديمة المتجددة. فيما يتصاعد الجدل حول دور وواجبات المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد ومجلس الأمن ومحكمة العدل العليا، ومدى إسهام هذه المؤسسات في ضمان هيمنة الدول المتقدمة، بل واستمرار استغلالها لباقي دول العالم ومصادرة ثروات تلك الدول وقراراتها السيادية.

ولكن ثمّة قطعة ناقصة في هذه الأحجية، لا تكتمل الصورة بدونها ألا وهي ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وبالأخص البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، وتأثير ذلك على تغيير قواعد اللعبة وقلب موازين القوى في المستقبل القريب.

إن الاستحواذ على البيانات والمعلومات وتحليلها ثم ربط الخيوط بعضها ببعض للوصول إلى فهم أفضل لسياسات الدول ورغبات وتوجهات مجتمعاتها، مع النجاح في اختراق وعي تلك المجتمعات والتأثير على رؤيتها وقراراتها ورغباتها وأهدافها، يُعتبرُ اليوم القوة الأكثر تأثيراً في السياسة العالمية، بل تكاد تكون القوة المستقبلية التي ستحكم العالم بلا منازع.
ففي الوقت الذي انحسرت فيه الحروب الكلاسيكية بالنظر الى فاتورتها الباهظة (لك أن تتخيل أن تكلفة الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة منذ عهد بوش الابن الى نهاية عهد أوباما قد وصلت إلى 4.4 تريليون دولار) ناهيك عن الخسائر البشرية، فقد وجدت الدول الكبرى أن أفضل بديل هو الاستثمار في التكنولوجيا ووسائل التواصل إضافة إلى الاعلام التقليدي، من أجل التأثير في الوعي المجتمعي، واستخدام البروباغندا الموجهة لفض النزاعات السياسية أو فرض توجهات سياسية معينة، وقد أثبت هذا التوجه نجاحاً باهراً في العقد الحالي. 
فعلى سبيل المثال لعبت شركة كامبريدج أناليتيكا دوراً رئيسياً في التأثير على تصويت الناخبين في الانتخابات الأمريكية عام 2016 من خلال شراكتها مع حملة ترامب، حيث قامت بدراسة بيانات الناخبين "المسروقة" وتخصيص رسائل موجهة وأخبار كاذبة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام، من أجل تحفيز الدوافع اللاشعورية لدى هؤلاء الناخبين ودفعهم للتصويت لترامب وإسقاط منافسته كلينتون، مستفيدة من تجربتها السابقة مع "أشقياء بريكست" الذين فعلوا الشيء نفسه لدفع البريطانيين إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، من خلال تغذية شعور المواطنة "المزيّف" والتخويف من المهاجرين، إضافة إلى انتقاد قوانين الاتحاد الأوروبي، وهو ما يُثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن امتلاك القدرة على الوصول إلى البيانات ومعالجتها ثم التخطيط الاستراتيجي بناء على تحليل تلك البيانات، هو القوة الخفية التي تدير شؤون العالم اليوم.

في السابق كانت دول العالم تنفق ملايين الدولارات وتستثمر في مخططات استخباراتية تجسّسيه تتطلب العمل المُضني لعدة سنوات، من أجل الحصول على معلومات حيوية عن الدول أو المجتمعات المستهدفة، وكان ذلك كله محفوفاً بالمخاطر.
ولكن اليوم، وبفضل الثورة الرقمية تتوافر جُلّ البيانات والمعلومات في العالم الرقمي (بما في ذلك السرية منها)، وما على الدول الراغبة، سوى الولوج إلى هذه المعلومات (أو قرصنتها) واستخراجها وتحليلها والاستفادة منها في بناء الخطط الاستراتيجية.

في ظل هذا الاختراق الكبير لوعي المجتمعات، يتساءل الناشطون والحقوقيون، عن مستقبل الديمقراطية والتصويت الحر، في ظل هذا الكم الهائل من المعلومات المغلوطة والأخبار الموجهة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والبروباغندا السياسية المبنية على عوامل الخوف والأمن والاعتزاز بالعرق واللون والانتماءات الطائفية!
لم يكن أحد يتصوّر أن تقوم أجهزة الاستخبارات، باستغلال التكنولوجيا وأجهزة الحواسب الشخصية والهواتف النقالة للتجسس على خصوصيات الأفراد حول العالم، بل والتجسس على مواطنيها في بعض الأحيان. كنا نتصور أن يحدث هذا في أفلام الجاسوسية فقط، ولكن بعد تسريبات سنودن ووثائق ويكيليكس، تبيّن ان الواقع أكثر إيلاماً من أفلام السينما، وأن حياتنا تحاكي تلفزيون الواقع مع اختلاف بسيط اننا لا نعلم بأننا أبطال المشهد!
ونحن في العالم العربي لسنا ببعيدين عن تأثير هذه الحروب الالكترونية الجديدة، ويكفي أن نشير إلى التراجع الحاد الذي شهدته ثورات الربيع العربي بفعل التخويف من الإرهاب والجماعات المتطرفة (نظرية الأمن والأمان واستقرار البلد) والذي أدى في النهاية إلى ترجيح كفة الزعامات السلطوية والديكتاتورية في مواجهة المطالبات الشعبية للإصلاح.
أضف إلى ذلك استغلال نظرية المؤامرة الصهيونية والتي تم توجيهها من قبل ذات الأنظمة لدعم مواقفها "الوطنية" وضمان استمرارها في الحكم، أو في بعض الحالات العودة للقبض على السلطة مجدداً.
ناهيك عن نشوء مؤسسات "الذباب الالكتروني" التي تقوم ببث رسائل موجهة، وأخبار زائفة وملفقة للتأثير في الرأي العام، ورسم سياسات عامة للمجتمع.

في النهاية يمكن القول إن ما قامت به شركة كامبريدج اناليتيكا من الناحية التكنولوجية البحتة هو عمل إبداعي بكل معنى الكلمة (بعيداً عن جريمة خرق الخصوصية التي اقترفتها ودفعت ثمنها غالياً بإعلان إفلاسها)، إذ أن تسخير التكنولوجيا لتحليل بيانات مستخدمي الشبكات الاجتماعية وفهم سلوكهم، ثم بناء أنماط سيكولوجية لهم والتنبؤ بنوازعهم وتوجهاتهم، ومن ثم تحديد الشرائح القابلة للتغيير منهم، واستهدافها من خلال بروباغاندا موجهة، ثم النجاح في دفعهم لاتخاذ القرار المراد لهم اختياره (في بعض الدول كان الهدف هو إقناع الناخبين بمقاطعة الانتخابات) لهو قفزة هائلة في علوم التكنولوجيا والسيكولوجيا وعلوم الاجتماع، وكل ما نأمله أن تخدم هذه القفزة التكنولوجية خير البشرية وحقوق الانسان لا أن تكون سلاحا جديداً في يد الطغاة.
كما نأمل أيضاً ان تقوم مؤسساتنا التعليمية والفكرية وشركات التكنولوجيا في عالمنا العربي بالاستفادة من هذه الثورة التكنولوجية الرقمية، وتسخيرها لخير البلاد والعباد، لعلّنا نرتقي إلى سلّم الحضارة مجددا، ونصبح من المؤثرين في هذا العالم!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
29-9-2019

الأربعاء، 11 سبتمبر 2019

أزمة المُعلّمين تدقُّ ناقوس الخطر في الأردن

من يراقب الوضع في الأردن عن كثب يدرك أن الأزمة القائمة حالياً بين نقابة المعلمين والحكومة، قد حركت المياه الراكدة، وأظهرت انقساماً كبيراً بين توجهات الحكومات المتعاقبة وسياساتها العامة وبين نبض الشارع وتوجهاته.
هذا الانقسام الجلي أدى بدوره إلى تعميق حالة السوداوية التي يعيشها المواطن الأردني منذ عدة سنوات، وحاول التعبير عنها أكثر من مرة، ولكن الحلول كانت دائماً ما تأتي مؤقتة وأقرب ما تكون الى مسكنات الألم، وجرعات من الوعود المستقبلية.

لا أذكر أني قد عاينت هذه الدرجة من التشاؤم والقراءة السلبية لكل ما يحدث لدى مختلف فئات المجتمع، بقدر ما أعايشه هذه الأيام، ولعله من المؤسف أن تسمع ذات الجملة بصياغات مختلفة (البلد إلى أين؟!).

من المُقلق أن يشعر المواطن بعجز رئيس الوزراء عن الإيفاء بوعوده الإصلاحية والقيام بالمسؤوليات التي تم تكليفه بها في قرار التكليف السامي وما تلا ذلك من توجيهات وأوراق نقاشية، ولكن الأنكى من ذلك أن يوقن المواطن الأردني أن تغيير الحكومات والاتيان بطاقم حكومي جديد لن يحل مشاكل البلد، ولن يقدّم او يؤخر في شيء، فالمشاكل الاقتصادية والانقسامات في المجتمع، وأبواب الفساد المفتوحة على الجحيم، وتوغل الحيتان والمنتفعين في البلد، وقيامهم بنهب الثروات والاعتداء على مقدرات الوطن، إضافةً إلى فشل مجلس النواب في القيام بواجباته الرقابية والتشريعية، بل ودخوله في صراعات فئوية واحادية، كل ذلك جعل الصورة العامة مظلمة ولم يعد الأمر مرتبطا بأشخاص وأسماء بل أصبح فساداً مؤسساتياً ومنهجاً عاماً.

من الواضح أن الحكومة اختارت معالجة أزمة المعلمين (وأي مطالب إصلاحية أخرى) بالعقلية الأمنية، والتأكيد على أن زمن الاعتصامات والمطالب والاحتجاجات قد ولّى، وأن الدولة لن تخضع لأي ضغوطات شعبية أو نقابية.
فقامت وزارة الداخلية بالزج بقوات الدرك وأفراد الأمن في مواجهة المعلمين والمعتصمين، وأغلقت الطرق المؤدية الى مقر رئاسة الوزراء، وهو ما أدى في النهاية إلى جعل العاصمة عمان مكاناً شبه مغلق بالكامل.
ولم تراعي وزارة الداخلية مصلحة الوطن والمواطن وتأثير تعطيل الأعمال واغلاق الشوارع الرئيسية على حيوات المواطنين ومصالحهم، بل إنها ألقت باللائمة على نقابة المعلمين لعدم اختيار مكان آخر (غير حيوي) للاعتصام ولعدم اختيارها يوم عطلة لتنفيذ الاعتصام!
وأعلن وزير الشؤون السياسية والبرلمانية ان علاوة المعلمين تكلف خزينة الدولة 120 مليون دينار في العام الواحد، ولكن الوزير لم يوضح بالأرقام والإحصاءات كيف توصل الى هذا الرقم، كما تناسى الوزير ان مطالب المعلمين جاءت نتيجة اتفاق بين الحكومة والنقابة عام 2014، وأن على الحكومة ان تلتزم باتفاقياتها مع النقابات تماماً كما تلتزم مع المؤسسات الدولية، فهل يا ترى ستستنكف الحكومة عن دفع فوائد الديون الخارجية لأنها تكلف خزينة الدولة مبلغاً وقدره؟ وهل فشلت الحكومة (منذ عام 2014) في وضع خطة لتوفير هذا المبلغ أم انها لم تضعه في الحسبان أصلاً، على مبدأ كلام الليل يمحوه النهار؟

المفارقة أن مشاريع حكومية عدّة مثل القطار السريع والمدن الاقتصادية والمفاعل النووي، تكلف خزينة الدولة أموالا باهظة، ولا يتم الاعتراض على تلك المشاريع بسبب ميزانياتها الضخمة، ولكن على ما يبدو فإن تحسين حال المواطن ورفع مستوى معيشته ليس من أولويات الحكومات، ناهيك عن التقصير في محاربة الفاسدين وتحصيل الأموال المنهوبة والذي يؤدي إلى عجز أكبر في خزينة الدولة.

لقد أعلنت الحكومة قبل نحو شهر أن خط الفقر في الأردن يبلغ مائة دينار للفرد الواحد، في حين ان راتب المعلم بعد نحو عشر سنوات من الخدمة لا يصل الى 500 دينار، وهو خط الفقر لأسرة من خمس أفراد، ورغم ذلك لا ترى الحكومة من واجبها ان تجلس مع نقابة المعلمين وتعمل على رفع المستوى المعيشي للمعلمين!

لقد انحدر مستوى التعليم في الأردن بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وبدلاً من الوقوف على أسباب هذا الانحدار ومعالجتها والدفع بالعلم والتعليم في البلد إلى الأمام، تُصرّ الحكومة على معالجة الموضوع بالتنصّل من المسؤوليات والتذرّع بعجز الميزانية، وتغض الطرف عن أن سوء حال المعلمين سيؤدي إلى انهيار قيم التعليم والعلم في المجتمع بأكمله.

لقد دفعت الداخلية باتجاه صدام بين أبناء المجتمع، فهذا يشيد بموقف المعلمين وذاك يدافع عن أفراد الدرك، وعن مصالح الطلاب، وآخر يهاجم نقابة المعلمين بسبب أزمة السير الخانقة، وكأن القضية هي قضية خلافية بين أبناء الشعب، وليست قضية مبدئية لتحصيل حقوق أساسية كفلتها الحكومة الأردنية قبل أعوام.

الحكومة الحالية كباقي الحكومات السابقة تعيش في عزلة عن المواطن وتتعامل معه بعلو واستكبار وتهميش ونبذ حقيقي، بل انها تفتعل المواجهات معه، وتخلق أعداءً لها من داخل الوطن، كل ذنبهم أنهم يعبّرون عن رأيهم وينتقدون ويمارسون حقوقهم الدستورية.
وجاءت ازمة المعلمين لتُعرّي خداع الحكومة وتكشف عن تدني مصداقيتها، ومحاولتها خلط الأوراق ودفع المواطنين لمواجهة بعضهم البعض، في خلافات جانبية، فيما الأصل أن تقوم مؤسسات الدولة بتقديم الحلول بالطرق السلمية والقانونية، وكل هذا يؤكد من جديد عجز الحكومات المتوالية عن علاج المشاكل الأساسية، ومحاولاتهم المستمرة لإطالة أمد المواجهة الحقيقية للمشاكل، وكل هذا على حساب الوطن والمواطنين.

نشرت جريدة الغد الأردنية مقالاً الأسبوع الماضي، يتساءل فيه كاتبه عمّن يقود الحكومة، هل هو رئيس الوزراء د. عمر الرزاز أم نائب الرئيس د. رجائي المعشر بصفته المسؤول عن الملف الاقتصادي، ولكن السؤال الأهم الذي بات يتردد الآن في الشارع الأردني: من يقود الحكومة هل هو رئيس الوزراء أم وزير الداخلية سلامة حمّاد؟

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
10-9-2019

الاثنين، 2 سبتمبر 2019

جيل البلاسيبو!





قرأتُ فيما قرأت عن العلاج بالوهم أو الايحاء، وهو دواء أو إجراء علاجي زائف (غير ضار)، ولكنه يؤدي إلى تحسّن صحّي ملموس بالنظر الى اعتقاد المريض الذاتي في إمكانية العلاج وإيمانه المًطلق في المُعالج، حيث يقودُ التأثيرُ النفسي المريضَ إلى الشفاء والتخلّص من مظاهر المرض ولو مؤقتاً، وهو ما يُعرف علمياً ب "أثر البلاسيبو" Placebo effect، والبلاسيبو هو أي عقار أو علاج يوصف للمريض دون أن يكون له علاقة بمرضه أو تأثير في علاجه.

وفي تفسير هذه الظاهرة يقول الباحثون إن الأثر السيكولوجي ومشاعر الاهتمام والرعاية والتشجيع والأمل التي يبثها الموقف العلاجي تستفز في الجسد آليات فسيولوجية (بطريقة غير مفهومة) تُفضي إلى تأثير ملموس وفيزيائي حقيقي، وقد تم في بعض الحالات توثيق نشاط عصبي ملموس، وتحفيز لجهاز المناعة.

وهذا الأثر البلاسيبي، هو باب النعيم الذي يترزّق منه الدجّالون وطاردو الأرواح ومخرجو الجن من الأجساد، والمعالجون بالرقية والزار، إذ أنهم يعتمدون على علاج الوهم بالوهم، وغالباً ما يتمكنون من النجاح في ظل الايمان المُطلق بالشفاء الموجود في صدور كل من يسعى للعلاج لديهم، ناهيك عن الايمان الأصيل بوجود عمل شيطاني خبيث يمنعهم من النجاح في العمل أو في الحب والزواج او الإنجاب وغير ذلك. وطالما تجسّد سبب الفشل أو المرض في صورة ذهنيّة أو واقعية، وفُتحَ بابُ الخلاص عن طريق الأولياء والأشخاص الصالحين، وكان ذلك مُباركاً بالذكر ومُحاطاً بالقداسة، فإن النجاةَ تكون شبه أكيدة!

ولكن الحقيقة، إن البلاسيبو في النهاية لن يشفي مريضاً من السرطان ولن يوقف نزيفاً حاداً في الدماغ، كما أنه لن يجعل من شخص فاشل في الإدارة مديراً ناجحاً أبداً، ولكن يحدث أن تأتي الأحداث السعيدة وفرص النجاح لأنها غالباً ما تكون متوفرة غير أننا لا نأخذها على محمل الجد، وتشفى الأمراض كذلك أو الحالات النفسية لأنها غالباً ما تشفى مع مرور الوقت، ولأنها تعتمد أيضاً على اعتقاداتنا الشخصية وأوهامنا الداخلية في كثير من الأحيان، ولكن البلاسيبو بالتأكيد ليس سبباً في النجاح أو الشفاء.

وقد تناولت العديدُ من الكتب الأدبية والأعمال الفنيّة، موضوع أثر البلاسيبو، بل إن تجارب علمية كثيرة أجريت على هذا الأثر، وأفضت إلى نتائج صادمة أحياناً.

وفي العقدين الأخيرين أخذ أثر البلاسيبو منعطفاً آخراً بالاعتماد عليه فيما يعرف بالتنمية الذاتية أو البرمجة العصبية وغيرها من أبواب تطوير المهارات الشخصية، التي تعتمد على بث أسباب النجاح والتفاؤل والثقة في النفس، والايمان المُطلق أن نجاح الفرد مرتبط في الأساس بالايمان الداخلي للفرد بالنجاح (أو الفشل)، فإذا استطاع الشخص إعادة برمجة شخصيته وحملها على الايمان المطلق بالقدرة على النجاح وتحمل المسؤولية والقبول لدى الآخر والتواصل الاجتماعي....الخ القائمة الطويلة فإنه سيكون قادراً على النجاح دون أدنى شك.

وخلال السنوات الماضية كنت حريصاً على متابعة هذه المناهج غير أني رغم اقتناعي بفائدتها (إذا ما اتبعنا المنهج العلمي السليم واستوعبنا طريقة عملها وأسباب نجاحها أو فشلها)، إلا أني لاحظت أنه قد اختلط الحابل بالنابل خصوصاً مع ازدياد انتشار هذه العلوم والمناهج، ودخول فئة كبيرة من أدعياء المعرفة (بحثاً عن الثراء والشهرة) وأصبحت هذه المناهج والدراسات أثراً بلاسيبياً جديداً لا يعدو كونه تسويقاً للوهم بقالب علمي نفسي جديد!

فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن أصدّق أن شخصا سويّاً يقف أمام المرآة ويقول لنفسه بصوت عال "أنت شخص ناجح"، ثم يذهب الى العمل فيصبح ناجحاً، أو أن شخصاً يذهب الى مقابلة للعمل وبدلاً من الاستعداد المهني لها يركز على لغة الجسد وقراءة الشخصية وينتظر أن ينجح في المقابلة، وحتى لو اجتاز المقابلة فكيف سينجح في أداء مهامه الوظيفية!

كيف تصبح مديراً ناجحاً، اعرف شخصيتك، كيف يكون زواجك ناجحاً، افهم نفسك أولاً وغيرها من العناوين الرنّانة الخالية من المضمون، والتي تعتمد في النهاية على تسويق الوهم اعتماداً على القدرة الايمانية للمتلقي بالشفاء أو النجاح أو التغيير.

الشيء الذي يخفونه عنك أن النجاح يحتاج الى تخطيط وإرادة وشغف وتنفيذ مهام متعددة، وتنمية قدرات ومعارف قبل أن يحتاج إلى إيمان وثقة بالنفس أو برمجة عصبية، وإذا غابت عناصر النجاح لن يكفيك أن تكون مؤمنا وراغباً في النجاح.

وكما يحاول بعض خبراء التنمية الذاتية أو البشرية اليوم بيع الوهم بالاعتماد على أثر البلاسيبو فإني أجزم أن جيلاً كاملاً قد ترعرع على الايمان المطلق بأننا أفضل الأمم أخلاقاً وتاريخاً وحضارةً، وكل ما علينا فعله هو انتظار التاريخ ليعيد نفسه أو ظهور المهدي المنتظر ليقودنا في المعركة الفاصلة، وهذا لعمري لهو الوهم الكبير الذي عاشه جيلنا.

لقد زرعوا في نفوسنا وفي كتب التاريخ والتراث، رمزية القائد وتقديس الأشخاص، والقصص الأسطورية والمعجزات الخارقة، حتى بتنا نؤمن أن التغيير يأتي من السماء وليس من أنفسنا، وأن كل ما وصلت له الحضارات الغربية هو غثاء كغثاء السيل، وأن الخير فينا نحن دون الآخرين.

والأدهى والأمر أن نعزو أسباب فشلنا إلى قلة عدد المصلين في صلاة الفجر والنساء العاريات، في حين نغض الطرف عن سوء التعليم والفساد والتبعية للخارج ونهب الأموال والبلاد والتخلف الفكري والعصبية الدينية والفقر والجهل والواسطة والمحسوبية وعدم المساواة ومحاربة الديمقراطية وعدم حماية الحريات الفكرية وعدم احترام الرأي الآخر وعدم الايمان بالعدل والمساواة وأن القانون فوق الجميع.

نحن جيل يؤمن أننا سنهزم تخلفنا الحضاري بمعجزة، وسنحرر فلسطين بالمهدي المنتظر، وسننتقل من أدنى الأمم إلى قمتها بما يشبه عصا موسى ودون أن نبذل في سبيل ذلك قطرة عرق، متغافلين عن الأخذ بالأسباب ومحاربة الفساد وعدم قبول الظلم وتقديس العلم بدلاً من الجهل والخرافة، والأهم من ذلك كله، الايمان أن عصر المعجزات قد انتهى وأن رسالة سيدنا محمد تدعو الى الأخذ بالأسباب والاعتماد على الذات ثم طلب النصر، لا العكس!

تاريخنا مليء بالقصص السردية والخطب العصماء والشعر والنثر والغزل، ولكنه لا يتحدث عن عظماء العلوم والفلسفة والفكر بقدر ما يفرد صفحات طويلة للحديث عن الفرق الدينية والعصبيات وجمال البادية ونساء العرب، بل أنه لا يحدثنا عن القفزة العلمية الحضارية التي واكبت ظهور الإسلام وانتشاره في بقاع الأرض، وكيف أصبح المسلمون سادة علماء عصرهم.

وجلُ كتب الدين وعلومه تدور في فلك العبادات والشعائر والطهارة، مع مرور الكرام على الأخلاق ومنظومة القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الانسان واحترام الآخر وأصول التعايش السلمي وبناء المجتمعات المدنية القائمة على العدل والمساواة.

إننا باختصار يا سادة، جيل البلاسيبو، جيل الوهم الذي زرعوه في نفوسنا كي نركن ونستكين ونحيا بانتظار المعجزة، ثم نموت قبل أن ندرك أن عصر المعجزات قد انتهى، واليوم يحاول البعض إقناعنا أن النجاح بحاجة فقط إلى قراءة كتاب عن النجاح أو حضور دورة لاكتشاف مكامن قدراتك!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-9-2019

الاثنين، 26 أغسطس 2019

أصدقاء ولكن غرباء!




في ظل الثورة التكنولوجية التي نعيش، والعالم الرقمي الذي بتنا جزءاً منه شئنا أم أبينا، اتخذت علاقاتنا الاجتماعية وروابطنا الإنسانية منعطفاً حرجاً، وباتت تعاني شيئا فشيئا من الاضمحلال العاطفي وندرة اللحظات الفارقة والعلاقات الحميمة.
فباتت حياتنا تقوم على مجموعة من اللحظات العابرة، واللقاءات الروتينية الخالية من العواطف وصدق المشاعر.
وكأن العالم الجديد الذي بات يعتمد على السرعة في كل شيء، السرعة في الاتصالات، والوجبات السريعة، والقهوة سريعة التحضير، ووجبات الدايت الخفيفة، قد جعلنا نبتعد أيضاَ (لا شعورياً) عن العلاقات "الدسمة" والأصدقاء الحقيقيين الذين يشاركونا لحظات حياتنا المؤثرة والفاصلة، ونكتفي على ما يبدو بالعلاقات العابرة "الخالية من الدسم"، واللقاءات السريعة "الخالية من الكافيين".

وفي ظل القفزات التكنولوجية التي لا تنتهي، والعالم الذي يدور حول فلك الفرد لا المجموعة، أصبحنا نتحول نحن أنفسنا الى ما يشبه الروبوتات في علاقاتنا، فأصبحت تطبيقات التواصل الاجتماعي بديلاً "شرعياً" عن التواصل الإنساني المباشر، واللقاءات الاجتماعية والشخصية، وهكذا انكفأنا على أنفسنا، وبات كل فرد يعيش في عالم خاص به، عالمه "الافتراضي"، الذي بات يعتبر "الصندوق الأسود" الذي يحتفظ فيه بخصوصياته وأسراره.

 الفيلم الإيطالي Perfect Strangers الذي صدر عام 2016 يسلّط الضوء على المفارقة الكبيرة بين علاقاتنا الاجتماعية في عالم الواقع وعلاقاتنا الخفية في عالمنا الرقمي، ويوضح الاختلالات التي نُعاني منها جراء التباين في شخصياتنا بين هذين العالمين.
تدور أحداث الفيلم حول سهرة تضم مجموعة من الأصدقاء، الذين يحرصون على اللقاء بشكل دوري في أحد بيوتهم العائلية. وفي هذه السهرة بالذات تقترح المستضيفة أن يكسروا حاجز الخصوصية فيما بينهم، متحدية إياهم أن يضعوا أجهزة الهواتف النقالة على الطاولة وأمام الجميع، وأن يقوم كل واحد منهم بقراءة كل الرسائل النصية التي تصله بصوت عال، وأن يقوم كذلك باستقبال كافة المكالمات الواردة على مكبر الصوت وعلى مسمع الجميع. وبين الإحراج والمكابرة يقبل الجميع التحدي مُكرهاً -لإبعاد الشبهات-وهكذا تبدأ اللعبة.

مع مضي الأحداث، تبدأ خطوط اللعبة بالتشابك والتعقيد وتتطور وصولاً إلى كشف جميع الخفايا التي يخفيها الصديق عن أصدقائه، والخبايا التي يخفيها الزوج عن شريك حياته، وتطفو على السطح أيضاً، العلاقات الشائكة داخل كل عائلة، وكل ما يحاولون إخفاءه عن نظرائهم.

ورويداً رويداً يتضح أن علاقة الصداقة المتينة التي تجمع بين هؤلاء الأصدقاء في العلن، ما هي إلا علاقات سطحية لم تبلغ العمق الكافي من التجربة ولا القناعة الفكرية اللازمة، وأن ميولاً شخصية لأحد الأفراد أو قناعة فكرية ما، أو حتى نزوة أو رغبة، كفيلة بأن تدبّ الخلافات والانشقاقات بينهم، بل إن لعبة رياضية قد تفرّقهم.

وعلى الجانب الآخر، نجد أن كل شريك له عالمه الافتراضي الخاص، بعيداً عن شريك حياته، وفي عالمه الخاص هذا يمارس ما يشاء من علاقات، ويحقق رغباته الشخصية من تواصل مع الجنس الآخر، مفترضاً ألاّ علاقة لهذا بعالمه الواقعي وأن هذا العالم الافتراضي لا يؤثر من قريب أو بعيد على علاقته العاطفية مع شريك حياته، او على مصداقيته واحترامه لنفسه، واحترام الآخرين له.

وتنتهي اللعبة بكشف المستور وإظهار كل ما كان مخفياً من علاقات ونزوات وممارسات وآراء، دون تجميل، بل على العكس فإن الحقيقة حين تنكشف فإنها تُظهر وجهها القبيح، وتترك أثراً جارحاً ومؤلما في النفس، مهما كانت التبريرات والأعذار، ومهما كابرنا على أنفسنا.

لعلّ جمالية العمل تتجلّى في المشهد الختامي، فبعد انتهاء السهرة ونشوب الخلافات وتعرّي الحقيقة، بحيث أصبح الواحد فيهم عارياً تماماً من كل الأكاذيب والمجاملات والادعاءات، وكأنه قد خلع قناعه وظهر بوجهه الحقيقي، يمضي مخرج الفيلم بالأحداث وكأن هذه السهرة كانت سهرة روتينية أخرى بدأت بالعناق والقبلات والمجاملات وانتهت بها كذلك، فهو يعيد ترتيب الأحداث وكأن اللعبة لم تحدث، ثم يعرض لنا النهاية الواقعية - الروتينية لتلك اللقاءات، حيث يعود كل شخص إلى عالمه الخاص، فهذا يحمل تلفونه النقال معه الى التواليت ليستقبل صورة مثيرة من صديقته في العالم الافتراضي، وآخر يستقبل مكالمة من عشيقته ويخبر زوجته أنه يتحدث مع مديرته في العمل، وذاك يخفي ميوله الجنسية، كما يتم ترتيب موعد للعب كرة القدم، واخفاء هذا الموعد عن صديقهم البدين، وهكذا تعود عجلة الحياة الطبيعية الى الدوران من جديد!

ومن خلال المشهد الختامي، يطرح العمل السؤال الأكثر تعقيداُ، ما هو العالم الحقيقي الذي نعيش؟ هل هو هذا الواقع المليء بالخداع والمجاملة والسطحية، والذي ندّعي فيه أننا نملك أصدقاءً حقيقيين نعرف كل شيء عنهم، أم ذلك العالم الخفي (الصندوق الأسود) المليء بالخبايا ونوازع اللاشعور والذي نجاهد أن نبقيه في الخفاء؟

يُذكر أنه قد تم إعادة إنتاج نفس القصة من قبل هوليوود وعدة شركات إنتاج عالمية أخرى، بعد نجاح هذا الفيلم، ولكن جميع تلك النسخ أو محاولات استنساخ الفكرة، لم ترتقِ في المستوى لإبداع وأصالة الفيلم الأصلي.

يتكشّف لنا في النهاية أن هؤلاء الأصدقاء هم مجموعة من الأصدقاء-الغرباء الذين يحملون الكثير من التناقضات، والاختلافات والتباعد في القيم الإنسانية، ولكنهم في النهاية يختارون بعقلهم اللاواعي أن يتصرفوا وكأنهم أصدقاء وشركاء حقيقيون، لأنهم لا يستطيعون التعرّي وافشاء خصوصياتهم بالكامل أو ابداء كل عيوبهم ونزواتهم من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم لا يرغبون بتعقيد حياتهم وتحويلها إلى حياة فاضلة أو ملائكية بحتة. وهم بذلك يختارون (مثلنا تماماً)، أن يمارسوا إنسانيتهم، محاولين قدر جهدهم أن يقيموا التوازن بين عوالمهم المختلفة، وأن يجمعوا حولهم لفيفاً من الأصدقاء الحقيقيين في الواقع، الغرباء عن بعض خصوصياتهم!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
25-8-2019