الأربعاء، 11 سبتمبر 2019

أزمة المُعلّمين تدقُّ ناقوس الخطر في الأردن

من يراقب الوضع في الأردن عن كثب يدرك أن الأزمة القائمة حالياً بين نقابة المعلمين والحكومة، قد حركت المياه الراكدة، وأظهرت انقساماً كبيراً بين توجهات الحكومات المتعاقبة وسياساتها العامة وبين نبض الشارع وتوجهاته.
هذا الانقسام الجلي أدى بدوره إلى تعميق حالة السوداوية التي يعيشها المواطن الأردني منذ عدة سنوات، وحاول التعبير عنها أكثر من مرة، ولكن الحلول كانت دائماً ما تأتي مؤقتة وأقرب ما تكون الى مسكنات الألم، وجرعات من الوعود المستقبلية.

لا أذكر أني قد عاينت هذه الدرجة من التشاؤم والقراءة السلبية لكل ما يحدث لدى مختلف فئات المجتمع، بقدر ما أعايشه هذه الأيام، ولعله من المؤسف أن تسمع ذات الجملة بصياغات مختلفة (البلد إلى أين؟!).

من المُقلق أن يشعر المواطن بعجز رئيس الوزراء عن الإيفاء بوعوده الإصلاحية والقيام بالمسؤوليات التي تم تكليفه بها في قرار التكليف السامي وما تلا ذلك من توجيهات وأوراق نقاشية، ولكن الأنكى من ذلك أن يوقن المواطن الأردني أن تغيير الحكومات والاتيان بطاقم حكومي جديد لن يحل مشاكل البلد، ولن يقدّم او يؤخر في شيء، فالمشاكل الاقتصادية والانقسامات في المجتمع، وأبواب الفساد المفتوحة على الجحيم، وتوغل الحيتان والمنتفعين في البلد، وقيامهم بنهب الثروات والاعتداء على مقدرات الوطن، إضافةً إلى فشل مجلس النواب في القيام بواجباته الرقابية والتشريعية، بل ودخوله في صراعات فئوية واحادية، كل ذلك جعل الصورة العامة مظلمة ولم يعد الأمر مرتبطا بأشخاص وأسماء بل أصبح فساداً مؤسساتياً ومنهجاً عاماً.

من الواضح أن الحكومة اختارت معالجة أزمة المعلمين (وأي مطالب إصلاحية أخرى) بالعقلية الأمنية، والتأكيد على أن زمن الاعتصامات والمطالب والاحتجاجات قد ولّى، وأن الدولة لن تخضع لأي ضغوطات شعبية أو نقابية.
فقامت وزارة الداخلية بالزج بقوات الدرك وأفراد الأمن في مواجهة المعلمين والمعتصمين، وأغلقت الطرق المؤدية الى مقر رئاسة الوزراء، وهو ما أدى في النهاية إلى جعل العاصمة عمان مكاناً شبه مغلق بالكامل.
ولم تراعي وزارة الداخلية مصلحة الوطن والمواطن وتأثير تعطيل الأعمال واغلاق الشوارع الرئيسية على حيوات المواطنين ومصالحهم، بل إنها ألقت باللائمة على نقابة المعلمين لعدم اختيار مكان آخر (غير حيوي) للاعتصام ولعدم اختيارها يوم عطلة لتنفيذ الاعتصام!
وأعلن وزير الشؤون السياسية والبرلمانية ان علاوة المعلمين تكلف خزينة الدولة 120 مليون دينار في العام الواحد، ولكن الوزير لم يوضح بالأرقام والإحصاءات كيف توصل الى هذا الرقم، كما تناسى الوزير ان مطالب المعلمين جاءت نتيجة اتفاق بين الحكومة والنقابة عام 2014، وأن على الحكومة ان تلتزم باتفاقياتها مع النقابات تماماً كما تلتزم مع المؤسسات الدولية، فهل يا ترى ستستنكف الحكومة عن دفع فوائد الديون الخارجية لأنها تكلف خزينة الدولة مبلغاً وقدره؟ وهل فشلت الحكومة (منذ عام 2014) في وضع خطة لتوفير هذا المبلغ أم انها لم تضعه في الحسبان أصلاً، على مبدأ كلام الليل يمحوه النهار؟

المفارقة أن مشاريع حكومية عدّة مثل القطار السريع والمدن الاقتصادية والمفاعل النووي، تكلف خزينة الدولة أموالا باهظة، ولا يتم الاعتراض على تلك المشاريع بسبب ميزانياتها الضخمة، ولكن على ما يبدو فإن تحسين حال المواطن ورفع مستوى معيشته ليس من أولويات الحكومات، ناهيك عن التقصير في محاربة الفاسدين وتحصيل الأموال المنهوبة والذي يؤدي إلى عجز أكبر في خزينة الدولة.

لقد أعلنت الحكومة قبل نحو شهر أن خط الفقر في الأردن يبلغ مائة دينار للفرد الواحد، في حين ان راتب المعلم بعد نحو عشر سنوات من الخدمة لا يصل الى 500 دينار، وهو خط الفقر لأسرة من خمس أفراد، ورغم ذلك لا ترى الحكومة من واجبها ان تجلس مع نقابة المعلمين وتعمل على رفع المستوى المعيشي للمعلمين!

لقد انحدر مستوى التعليم في الأردن بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وبدلاً من الوقوف على أسباب هذا الانحدار ومعالجتها والدفع بالعلم والتعليم في البلد إلى الأمام، تُصرّ الحكومة على معالجة الموضوع بالتنصّل من المسؤوليات والتذرّع بعجز الميزانية، وتغض الطرف عن أن سوء حال المعلمين سيؤدي إلى انهيار قيم التعليم والعلم في المجتمع بأكمله.

لقد دفعت الداخلية باتجاه صدام بين أبناء المجتمع، فهذا يشيد بموقف المعلمين وذاك يدافع عن أفراد الدرك، وعن مصالح الطلاب، وآخر يهاجم نقابة المعلمين بسبب أزمة السير الخانقة، وكأن القضية هي قضية خلافية بين أبناء الشعب، وليست قضية مبدئية لتحصيل حقوق أساسية كفلتها الحكومة الأردنية قبل أعوام.

الحكومة الحالية كباقي الحكومات السابقة تعيش في عزلة عن المواطن وتتعامل معه بعلو واستكبار وتهميش ونبذ حقيقي، بل انها تفتعل المواجهات معه، وتخلق أعداءً لها من داخل الوطن، كل ذنبهم أنهم يعبّرون عن رأيهم وينتقدون ويمارسون حقوقهم الدستورية.
وجاءت ازمة المعلمين لتُعرّي خداع الحكومة وتكشف عن تدني مصداقيتها، ومحاولتها خلط الأوراق ودفع المواطنين لمواجهة بعضهم البعض، في خلافات جانبية، فيما الأصل أن تقوم مؤسسات الدولة بتقديم الحلول بالطرق السلمية والقانونية، وكل هذا يؤكد من جديد عجز الحكومات المتوالية عن علاج المشاكل الأساسية، ومحاولاتهم المستمرة لإطالة أمد المواجهة الحقيقية للمشاكل، وكل هذا على حساب الوطن والمواطنين.

نشرت جريدة الغد الأردنية مقالاً الأسبوع الماضي، يتساءل فيه كاتبه عمّن يقود الحكومة، هل هو رئيس الوزراء د. عمر الرزاز أم نائب الرئيس د. رجائي المعشر بصفته المسؤول عن الملف الاقتصادي، ولكن السؤال الأهم الذي بات يتردد الآن في الشارع الأردني: من يقود الحكومة هل هو رئيس الوزراء أم وزير الداخلية سلامة حمّاد؟

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
10-9-2019

الاثنين، 2 سبتمبر 2019

جيل البلاسيبو!





قرأتُ فيما قرأت عن العلاج بالوهم أو الايحاء، وهو دواء أو إجراء علاجي زائف (غير ضار)، ولكنه يؤدي إلى تحسّن صحّي ملموس بالنظر الى اعتقاد المريض الذاتي في إمكانية العلاج وإيمانه المًطلق في المُعالج، حيث يقودُ التأثيرُ النفسي المريضَ إلى الشفاء والتخلّص من مظاهر المرض ولو مؤقتاً، وهو ما يُعرف علمياً ب "أثر البلاسيبو" Placebo effect، والبلاسيبو هو أي عقار أو علاج يوصف للمريض دون أن يكون له علاقة بمرضه أو تأثير في علاجه.

وفي تفسير هذه الظاهرة يقول الباحثون إن الأثر السيكولوجي ومشاعر الاهتمام والرعاية والتشجيع والأمل التي يبثها الموقف العلاجي تستفز في الجسد آليات فسيولوجية (بطريقة غير مفهومة) تُفضي إلى تأثير ملموس وفيزيائي حقيقي، وقد تم في بعض الحالات توثيق نشاط عصبي ملموس، وتحفيز لجهاز المناعة.

وهذا الأثر البلاسيبي، هو باب النعيم الذي يترزّق منه الدجّالون وطاردو الأرواح ومخرجو الجن من الأجساد، والمعالجون بالرقية والزار، إذ أنهم يعتمدون على علاج الوهم بالوهم، وغالباً ما يتمكنون من النجاح في ظل الايمان المُطلق بالشفاء الموجود في صدور كل من يسعى للعلاج لديهم، ناهيك عن الايمان الأصيل بوجود عمل شيطاني خبيث يمنعهم من النجاح في العمل أو في الحب والزواج او الإنجاب وغير ذلك. وطالما تجسّد سبب الفشل أو المرض في صورة ذهنيّة أو واقعية، وفُتحَ بابُ الخلاص عن طريق الأولياء والأشخاص الصالحين، وكان ذلك مُباركاً بالذكر ومُحاطاً بالقداسة، فإن النجاةَ تكون شبه أكيدة!

ولكن الحقيقة، إن البلاسيبو في النهاية لن يشفي مريضاً من السرطان ولن يوقف نزيفاً حاداً في الدماغ، كما أنه لن يجعل من شخص فاشل في الإدارة مديراً ناجحاً أبداً، ولكن يحدث أن تأتي الأحداث السعيدة وفرص النجاح لأنها غالباً ما تكون متوفرة غير أننا لا نأخذها على محمل الجد، وتشفى الأمراض كذلك أو الحالات النفسية لأنها غالباً ما تشفى مع مرور الوقت، ولأنها تعتمد أيضاً على اعتقاداتنا الشخصية وأوهامنا الداخلية في كثير من الأحيان، ولكن البلاسيبو بالتأكيد ليس سبباً في النجاح أو الشفاء.

وقد تناولت العديدُ من الكتب الأدبية والأعمال الفنيّة، موضوع أثر البلاسيبو، بل إن تجارب علمية كثيرة أجريت على هذا الأثر، وأفضت إلى نتائج صادمة أحياناً.

وفي العقدين الأخيرين أخذ أثر البلاسيبو منعطفاً آخراً بالاعتماد عليه فيما يعرف بالتنمية الذاتية أو البرمجة العصبية وغيرها من أبواب تطوير المهارات الشخصية، التي تعتمد على بث أسباب النجاح والتفاؤل والثقة في النفس، والايمان المُطلق أن نجاح الفرد مرتبط في الأساس بالايمان الداخلي للفرد بالنجاح (أو الفشل)، فإذا استطاع الشخص إعادة برمجة شخصيته وحملها على الايمان المطلق بالقدرة على النجاح وتحمل المسؤولية والقبول لدى الآخر والتواصل الاجتماعي....الخ القائمة الطويلة فإنه سيكون قادراً على النجاح دون أدنى شك.

وخلال السنوات الماضية كنت حريصاً على متابعة هذه المناهج غير أني رغم اقتناعي بفائدتها (إذا ما اتبعنا المنهج العلمي السليم واستوعبنا طريقة عملها وأسباب نجاحها أو فشلها)، إلا أني لاحظت أنه قد اختلط الحابل بالنابل خصوصاً مع ازدياد انتشار هذه العلوم والمناهج، ودخول فئة كبيرة من أدعياء المعرفة (بحثاً عن الثراء والشهرة) وأصبحت هذه المناهج والدراسات أثراً بلاسيبياً جديداً لا يعدو كونه تسويقاً للوهم بقالب علمي نفسي جديد!

فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن أصدّق أن شخصا سويّاً يقف أمام المرآة ويقول لنفسه بصوت عال "أنت شخص ناجح"، ثم يذهب الى العمل فيصبح ناجحاً، أو أن شخصاً يذهب الى مقابلة للعمل وبدلاً من الاستعداد المهني لها يركز على لغة الجسد وقراءة الشخصية وينتظر أن ينجح في المقابلة، وحتى لو اجتاز المقابلة فكيف سينجح في أداء مهامه الوظيفية!

كيف تصبح مديراً ناجحاً، اعرف شخصيتك، كيف يكون زواجك ناجحاً، افهم نفسك أولاً وغيرها من العناوين الرنّانة الخالية من المضمون، والتي تعتمد في النهاية على تسويق الوهم اعتماداً على القدرة الايمانية للمتلقي بالشفاء أو النجاح أو التغيير.

الشيء الذي يخفونه عنك أن النجاح يحتاج الى تخطيط وإرادة وشغف وتنفيذ مهام متعددة، وتنمية قدرات ومعارف قبل أن يحتاج إلى إيمان وثقة بالنفس أو برمجة عصبية، وإذا غابت عناصر النجاح لن يكفيك أن تكون مؤمنا وراغباً في النجاح.

وكما يحاول بعض خبراء التنمية الذاتية أو البشرية اليوم بيع الوهم بالاعتماد على أثر البلاسيبو فإني أجزم أن جيلاً كاملاً قد ترعرع على الايمان المطلق بأننا أفضل الأمم أخلاقاً وتاريخاً وحضارةً، وكل ما علينا فعله هو انتظار التاريخ ليعيد نفسه أو ظهور المهدي المنتظر ليقودنا في المعركة الفاصلة، وهذا لعمري لهو الوهم الكبير الذي عاشه جيلنا.

لقد زرعوا في نفوسنا وفي كتب التاريخ والتراث، رمزية القائد وتقديس الأشخاص، والقصص الأسطورية والمعجزات الخارقة، حتى بتنا نؤمن أن التغيير يأتي من السماء وليس من أنفسنا، وأن كل ما وصلت له الحضارات الغربية هو غثاء كغثاء السيل، وأن الخير فينا نحن دون الآخرين.

والأدهى والأمر أن نعزو أسباب فشلنا إلى قلة عدد المصلين في صلاة الفجر والنساء العاريات، في حين نغض الطرف عن سوء التعليم والفساد والتبعية للخارج ونهب الأموال والبلاد والتخلف الفكري والعصبية الدينية والفقر والجهل والواسطة والمحسوبية وعدم المساواة ومحاربة الديمقراطية وعدم حماية الحريات الفكرية وعدم احترام الرأي الآخر وعدم الايمان بالعدل والمساواة وأن القانون فوق الجميع.

نحن جيل يؤمن أننا سنهزم تخلفنا الحضاري بمعجزة، وسنحرر فلسطين بالمهدي المنتظر، وسننتقل من أدنى الأمم إلى قمتها بما يشبه عصا موسى ودون أن نبذل في سبيل ذلك قطرة عرق، متغافلين عن الأخذ بالأسباب ومحاربة الفساد وعدم قبول الظلم وتقديس العلم بدلاً من الجهل والخرافة، والأهم من ذلك كله، الايمان أن عصر المعجزات قد انتهى وأن رسالة سيدنا محمد تدعو الى الأخذ بالأسباب والاعتماد على الذات ثم طلب النصر، لا العكس!

تاريخنا مليء بالقصص السردية والخطب العصماء والشعر والنثر والغزل، ولكنه لا يتحدث عن عظماء العلوم والفلسفة والفكر بقدر ما يفرد صفحات طويلة للحديث عن الفرق الدينية والعصبيات وجمال البادية ونساء العرب، بل أنه لا يحدثنا عن القفزة العلمية الحضارية التي واكبت ظهور الإسلام وانتشاره في بقاع الأرض، وكيف أصبح المسلمون سادة علماء عصرهم.

وجلُ كتب الدين وعلومه تدور في فلك العبادات والشعائر والطهارة، مع مرور الكرام على الأخلاق ومنظومة القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الانسان واحترام الآخر وأصول التعايش السلمي وبناء المجتمعات المدنية القائمة على العدل والمساواة.

إننا باختصار يا سادة، جيل البلاسيبو، جيل الوهم الذي زرعوه في نفوسنا كي نركن ونستكين ونحيا بانتظار المعجزة، ثم نموت قبل أن ندرك أن عصر المعجزات قد انتهى، واليوم يحاول البعض إقناعنا أن النجاح بحاجة فقط إلى قراءة كتاب عن النجاح أو حضور دورة لاكتشاف مكامن قدراتك!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-9-2019

الاثنين، 26 أغسطس 2019

أصدقاء ولكن غرباء!




في ظل الثورة التكنولوجية التي نعيش، والعالم الرقمي الذي بتنا جزءاً منه شئنا أم أبينا، اتخذت علاقاتنا الاجتماعية وروابطنا الإنسانية منعطفاً حرجاً، وباتت تعاني شيئا فشيئا من الاضمحلال العاطفي وندرة اللحظات الفارقة والعلاقات الحميمة.
فباتت حياتنا تقوم على مجموعة من اللحظات العابرة، واللقاءات الروتينية الخالية من العواطف وصدق المشاعر.
وكأن العالم الجديد الذي بات يعتمد على السرعة في كل شيء، السرعة في الاتصالات، والوجبات السريعة، والقهوة سريعة التحضير، ووجبات الدايت الخفيفة، قد جعلنا نبتعد أيضاَ (لا شعورياً) عن العلاقات "الدسمة" والأصدقاء الحقيقيين الذين يشاركونا لحظات حياتنا المؤثرة والفاصلة، ونكتفي على ما يبدو بالعلاقات العابرة "الخالية من الدسم"، واللقاءات السريعة "الخالية من الكافيين".

وفي ظل القفزات التكنولوجية التي لا تنتهي، والعالم الذي يدور حول فلك الفرد لا المجموعة، أصبحنا نتحول نحن أنفسنا الى ما يشبه الروبوتات في علاقاتنا، فأصبحت تطبيقات التواصل الاجتماعي بديلاً "شرعياً" عن التواصل الإنساني المباشر، واللقاءات الاجتماعية والشخصية، وهكذا انكفأنا على أنفسنا، وبات كل فرد يعيش في عالم خاص به، عالمه "الافتراضي"، الذي بات يعتبر "الصندوق الأسود" الذي يحتفظ فيه بخصوصياته وأسراره.

 الفيلم الإيطالي Perfect Strangers الذي صدر عام 2016 يسلّط الضوء على المفارقة الكبيرة بين علاقاتنا الاجتماعية في عالم الواقع وعلاقاتنا الخفية في عالمنا الرقمي، ويوضح الاختلالات التي نُعاني منها جراء التباين في شخصياتنا بين هذين العالمين.
تدور أحداث الفيلم حول سهرة تضم مجموعة من الأصدقاء، الذين يحرصون على اللقاء بشكل دوري في أحد بيوتهم العائلية. وفي هذه السهرة بالذات تقترح المستضيفة أن يكسروا حاجز الخصوصية فيما بينهم، متحدية إياهم أن يضعوا أجهزة الهواتف النقالة على الطاولة وأمام الجميع، وأن يقوم كل واحد منهم بقراءة كل الرسائل النصية التي تصله بصوت عال، وأن يقوم كذلك باستقبال كافة المكالمات الواردة على مكبر الصوت وعلى مسمع الجميع. وبين الإحراج والمكابرة يقبل الجميع التحدي مُكرهاً -لإبعاد الشبهات-وهكذا تبدأ اللعبة.

مع مضي الأحداث، تبدأ خطوط اللعبة بالتشابك والتعقيد وتتطور وصولاً إلى كشف جميع الخفايا التي يخفيها الصديق عن أصدقائه، والخبايا التي يخفيها الزوج عن شريك حياته، وتطفو على السطح أيضاً، العلاقات الشائكة داخل كل عائلة، وكل ما يحاولون إخفاءه عن نظرائهم.

ورويداً رويداً يتضح أن علاقة الصداقة المتينة التي تجمع بين هؤلاء الأصدقاء في العلن، ما هي إلا علاقات سطحية لم تبلغ العمق الكافي من التجربة ولا القناعة الفكرية اللازمة، وأن ميولاً شخصية لأحد الأفراد أو قناعة فكرية ما، أو حتى نزوة أو رغبة، كفيلة بأن تدبّ الخلافات والانشقاقات بينهم، بل إن لعبة رياضية قد تفرّقهم.

وعلى الجانب الآخر، نجد أن كل شريك له عالمه الافتراضي الخاص، بعيداً عن شريك حياته، وفي عالمه الخاص هذا يمارس ما يشاء من علاقات، ويحقق رغباته الشخصية من تواصل مع الجنس الآخر، مفترضاً ألاّ علاقة لهذا بعالمه الواقعي وأن هذا العالم الافتراضي لا يؤثر من قريب أو بعيد على علاقته العاطفية مع شريك حياته، او على مصداقيته واحترامه لنفسه، واحترام الآخرين له.

وتنتهي اللعبة بكشف المستور وإظهار كل ما كان مخفياً من علاقات ونزوات وممارسات وآراء، دون تجميل، بل على العكس فإن الحقيقة حين تنكشف فإنها تُظهر وجهها القبيح، وتترك أثراً جارحاً ومؤلما في النفس، مهما كانت التبريرات والأعذار، ومهما كابرنا على أنفسنا.

لعلّ جمالية العمل تتجلّى في المشهد الختامي، فبعد انتهاء السهرة ونشوب الخلافات وتعرّي الحقيقة، بحيث أصبح الواحد فيهم عارياً تماماً من كل الأكاذيب والمجاملات والادعاءات، وكأنه قد خلع قناعه وظهر بوجهه الحقيقي، يمضي مخرج الفيلم بالأحداث وكأن هذه السهرة كانت سهرة روتينية أخرى بدأت بالعناق والقبلات والمجاملات وانتهت بها كذلك، فهو يعيد ترتيب الأحداث وكأن اللعبة لم تحدث، ثم يعرض لنا النهاية الواقعية - الروتينية لتلك اللقاءات، حيث يعود كل شخص إلى عالمه الخاص، فهذا يحمل تلفونه النقال معه الى التواليت ليستقبل صورة مثيرة من صديقته في العالم الافتراضي، وآخر يستقبل مكالمة من عشيقته ويخبر زوجته أنه يتحدث مع مديرته في العمل، وذاك يخفي ميوله الجنسية، كما يتم ترتيب موعد للعب كرة القدم، واخفاء هذا الموعد عن صديقهم البدين، وهكذا تعود عجلة الحياة الطبيعية الى الدوران من جديد!

ومن خلال المشهد الختامي، يطرح العمل السؤال الأكثر تعقيداُ، ما هو العالم الحقيقي الذي نعيش؟ هل هو هذا الواقع المليء بالخداع والمجاملة والسطحية، والذي ندّعي فيه أننا نملك أصدقاءً حقيقيين نعرف كل شيء عنهم، أم ذلك العالم الخفي (الصندوق الأسود) المليء بالخبايا ونوازع اللاشعور والذي نجاهد أن نبقيه في الخفاء؟

يُذكر أنه قد تم إعادة إنتاج نفس القصة من قبل هوليوود وعدة شركات إنتاج عالمية أخرى، بعد نجاح هذا الفيلم، ولكن جميع تلك النسخ أو محاولات استنساخ الفكرة، لم ترتقِ في المستوى لإبداع وأصالة الفيلم الأصلي.

يتكشّف لنا في النهاية أن هؤلاء الأصدقاء هم مجموعة من الأصدقاء-الغرباء الذين يحملون الكثير من التناقضات، والاختلافات والتباعد في القيم الإنسانية، ولكنهم في النهاية يختارون بعقلهم اللاواعي أن يتصرفوا وكأنهم أصدقاء وشركاء حقيقيون، لأنهم لا يستطيعون التعرّي وافشاء خصوصياتهم بالكامل أو ابداء كل عيوبهم ونزواتهم من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم لا يرغبون بتعقيد حياتهم وتحويلها إلى حياة فاضلة أو ملائكية بحتة. وهم بذلك يختارون (مثلنا تماماً)، أن يمارسوا إنسانيتهم، محاولين قدر جهدهم أن يقيموا التوازن بين عوالمهم المختلفة، وأن يجمعوا حولهم لفيفاً من الأصدقاء الحقيقيين في الواقع، الغرباء عن بعض خصوصياتهم!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
25-8-2019

الاثنين، 22 يوليو 2019

نظرية (الجهلُ المُكتسب)




تقول نظرية دانينغ -كروجر المعرفية، إن الانسان يميل إلى تعظيم مقدار معرفته مقارنة مع مواطن جهله، وغالباً ما يعتقد أن مقدار معرفته هو أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، على عكس اعتقاده بنقاط ضعفه (المعرفية أو المهارية والفنية).
وإن الانسان كلما تطوّر وتقدّم على سلّم المعرفة، كلما أدرك حجم نقصه المعرفي، واعترف بتواضع معرفته وخبرته.

باختصار، كلّما انخفضت فرص الفرد في المنافسة واكتساب المعرفة الحقيقية انخفضت قدراته ومؤهلاته، مما يؤدي إلى حالة من الجمود الفكري والوهم المعرفي (أنا خبير).

وإذا جاز لي البناء على هذه النظرية المعرفية، من واقع التطور الكبير الذي حصل في عالمنا مع بداية الألفية الثالثة وما بات يُعرف بالعالم الرقمي، وما أتاحه من تبادل للمعرفة الوهميّة، والحقائق المشوّهة القائمة على مغالطات منطقية فادحة، في جميع المجالات، فإني أقول إننا بتنا نعيش المرحلة الثانية من نظرية دانينغ-كروجر وسأطلق عليها مرحلة (الجهل المُكتسب).

تخيلوا معي أن السيد "زيد" لديه معرفة تُقدّر بنسبة عشرين بالمئة في حقل الاقتصاد على سبيل المثال، وهو راغبٌ في زيادة معرفته، ولكنه بدلاً من اتباع المنهج العلمي في البحث وطلب المعرفة، فإنه يقوم بالاعتماد على المصادر المتاحة التي تتميز بسهولة الوصول اليها وبساطة طرحها، غير آبه بمدى صحة المعلومات ودقتها وشموليتها، أو التيقن من صحة الحجج والبراهين، والتأكد كذلك من عدم اعتمادها على المغالطات، ناهيك عن أنه يفتقد القدرة أصلاً على التمييز بين زخرف القول، والبراهين المنطقية.

وفي إطار سعيه "الكسول" للمعرفة، فإنه يتعرّف من خلال هذه المصادر على مجموعة من المهتمين في هذا المجال والذين يفوقونه في المعرفة ولكنهم يعانون من حالة الوهم المعرفي (تأثير دانينغ-كروجر)، فيتأثر بأفكارهم ويأخذ عنهم دون تمحيص أو تحقيق، وينقل عنهم دون الرجوع الى مصادر أخرى، وهكذا بمجرد أن يقولوا قال فلان وورد في الكتاب الفلاني، صدّقهم ونقل عنهم لرغبته في اكتساب المعرفة السريعة السهلة.

ثم تحصل المفارقة، حين يقوم زيد -بالاعتماد على معرفته المكتسبة الركيكة- بمُعارضة نتائج أبحاث علمية ودراسات موثقة، ويقوم بالاستدلال على ذلك بمجموعة من المغالطات والحجج التي نقلها عن غير علم، وفي المقابل يقوم بنشر نظريات اقتصادية غير صحيحة مبنية على افتراضات خاطئة وغير منهجية.
وبحكم الثورة الرقمية التي نعيش، تصبح هذه النظريات والمعرفة (غير الحقيقية) متاحة للجميع، فيأتي شخص آخر (عمرو) والذي لا يمتلك أي أرضية معرفية في هذا المجال باستثناء الرغبة في ادعاء المعرفة، فينبهر بآراء زيد ويقتنع بها ثم يبدأ بنقلها ونشرها دون أن يعطي نفسه الفرصة للاطلاع على الآراء الأخرى أو البحث البسيط عن الحقيقة، ويصبح في النهاية من أشد المدافعين عنها!

وهنا تكتمل دائرة نقل الجهل بدلا من نقل المعرفة، وننتهي باكتساب الجهل بدلا من اكتساب المعرفة.

أسقِطوا اسم زيد على أدعياء الثقافة والمعرفة في عالمنا العربي، ممن يعشقون الظهور ويعانون من نرجسية مفرطة ويعيشون حالة الوهم المعرفي.
وبدلاً من حقل الاقتصاد، قارنوا ما قلناه بما يحدث في عالم السياسة والاعلام، أو التدبّر في القرآن، أو الأدب والشعر والفن وغيرها من المجالات، ثم حاولوا أن تتأملوا معي المساحات التي تُفرد في الاعلام (العربي والغربي) لهذه الفئة، والمنصّات التي توفرها شبكات التواصل الاجتماعي لتمرير مشاريعهم وأفكارهم السطحية التي تفتقر للمعرفة الحقيقية ولشروط التحقق العلمي والمنطقي، ثم انظروا إلى تأثير ذلك على أغلبية الأفراد من شاكلة (عمرو)!

في خضم هذا العالم السريالي الغريب، ومع انعدام وجود حافز للبحث العلمي والتدقيق والبحث وراء المعلومة، تصبح غالبية الجماهير بمثابة (مُتلقّين إيجابيين) لهذا الجهل الذي يتنكّر على هيئة المعرفة.

يقول المفكر الأمريكي كليفورد جيرتز (إن اعتقاد الفرد بأمر ما دون أدلة كافية هو أمر مُضرّ بالمجتمع كله، بل هو عدوى تنتشر في المجتمع. وإنه لمن الخطأ دوماً وفي أي مكان الاعتقاد بشيء دون براهين منطقية).

قديماً، كان الجهلُ سبباً في انتشار أفكار الايمان بالسحر والخرافة والشعوذة والرجم بالغيب والعلاقة السببية للأحداث بالمعجزات، واليوم جاء الجهلُ من باب ادعاء المعرفة والاعتقاد بأن ما نؤمن به هو الحقيقة الواضحة الساطعة، فانتشرت السذاجة والسطحية والشعبوية.

كلما كانت الفجوة المعرفية كبيرة في المجتمع، كلما زادت الفرصة في رواج الفكر غير المنطقي القائم على المغالطات وادعاء المعرفة، وكلما راجت أيضاً الحقائقُ غير العلمية وغير الدقيقة بسبب بهرجتها وغرابتها والتقدير الذاتي "الوهمي" الذي تتركه في النفوس.

في الختام أوجز القول بما يلي: كلما زادت رقعة المعلومات وتنوّعت مصادر الوصول اليها بحيث تصبح متاحة لجميع الأفراد على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم المعرفية، دون مراعاة أصول البحث العلمي لبناء المعرفة، ودون استخدام البراهين المنطقية لإثبات الحقائق، كلما زادت فرصة الحصول على معلومات غير موثقة وحقائق غير علمية وترويجها على حساب الحقائق العلمية والمعلومات الموثقة، وذلك لسببين، الأول هو الكسل في طلب المعرفة والميل للاعتماد على التلقّي والنقل. والثاني هو الانجذاب لكل ما هو جميل وبرّاق وخارج عن المألوف، دون النظر الى ميزان الصواب والخطأ أو الحق والباطل.

وكلما أتيح للمعرفة الزائفة الفرصة لرؤية الضوء، كلما انتشرت مثل العدوى بين فئات المجتمع، نظراً للرغبة البشرية الأساسية في حب التملّك (امتلاك المعلومة والتنظير بها بغض النظر عن صحتها) والاعتقاد اليقيني بأن هذه الملكيّة، تزيدُ من قيمة الفرد في المجتمع وتجعله محطّ اعجابِ وتقدير الآخرين. مما يؤدي في النهاية الى اكتساب الجهل ورواجه، مقابل انخفاض موازٍ في اكتساب المعرفة الحقيقية ورواجها، وضمور في التنمية الحقيقية.

هذه الحالة الوهمية من المعرفة والتي في حقيقتها اكتساب متزايد للجهل، أدّت كما هو واضح للعيان إلى تواري الأدباء والمفكرين الحقيقيين وقلة الاهتمام بهم لصالح مجموعة من أدعياء الثقافة ذوي الوصفات السريعة والجاهزة، وأصحاب الكاريزما الجذابة، كما أدّت إلى انتشار التطرّف والعصبية والطائفية، في ظل شبه غياب للنظريات المعرفية القادرة على تجديد الفكر والارتقاء بالحضارة الانسانية، وأدّت أيضاً إلى تواري الفنون الحقيقية عن الضوء، مقابل ازدهار الصخب والضجيج والاحتفاء بالسذاجة والسماجة.

باختصار لقد خدمت الثورةُ الرقميةُ "الرويبضة" على حساب المُفكّر والعالِم والأديب، فانقلبت الموازين، وضاعت الحكمة، وسقطت عروش الفكر أمام جحافل الجهل.  


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
21-7-2019

الاثنين، 15 يوليو 2019

من وعود العاصفة إلى وعود حسن نصر الله!




أطلّ علينا السيد حسن نصر الله على قناة المنار، وكأنه الناطق الرسمي باسم إيران في المنطقة، والمُبشّر بزوال إسرائيل على يدها.
وهذا يقودنا إلى إعادة طرح السؤال الجدلي مجددا، هل أجندة حسن نصر الله وميليشيات حزب الله هي اجندة وطنية لبنانية؟ قومية عربية؟ إسلامية؟ أم إيرانية بحتة؟ وهل تتوافق هذه الأجندة مع قضايا فلسطين والوطن العربي مرحلياً أم منهجياً واستراتيجياً؟

شعبية حسن نصر الله

لطالما تمتّع السيد حسن نصر الله بشعبية جارفة في العالم العربي قبل أحداث الربيع العربي وبالتحديد قبل الأزمة السوريّة، وكان هناك شبه إجماع على تأييد حسن نصر الله أو حزب الله، والايمان التام بعقيدته السياسية والنضالية.
وكان ذلك منطقياً وطبيعياً إلى حد كبير، بالنظر إلى طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي وحقيقة تواجد قوات الاحتلال داخل الحدود اللبنانية وحرب الاستنزاف "الباردة" المُعلنة بين الطرفين.
ولكن الذي حصل بعد ذلك كان منافياً للمنطق ولكافة شعارات المقاومة والحرية، فالتيار الوطني التحرري المُقاوم تحوّل لتأييد نظام ديكتاتوري ظالم في سوريا، لأسباب سياسية بحتة ولحفظ مصالح إيران في المنطقة، مُخالفاً بذلك آمال شعوب المنطقة في التحرّر وإعادة تشكيل النظام السياسي الذي يحفظ لهم كرامتهم ويحمي أوطانهم من الفساد.

والمفارقة الأكبر في سياسة حسن نصر الله وحزب الله، هو تحوّلها من حركة تحررية ثورية إلى ميليشيات مسلّحة لا تخضع لأي مساءلة أو سلطة داخل لبنان، وتشارك في ذات الوقت في اللعبة السياسية، وهو تناقض خطير، فإما أن تحافظ على إرثها المُقاوم، وتتخذ من حرب الاستنزاف وممارسة عمليات المقاومة ضد العدو الصهيوني، منهجاً لها، أو تلقي بسلاحها وتنضم إلى الأحزاب السياسية مع الخضوع التام للدولة.

مزارع شبعا ومسمار جحا

ولعلّكم تذكرون قضية مزارع شبعا، التي كانت أبلغ وأعمق من قصة مسمار جحا، فبعد انسحاب قوات الاحتلال من الجنوب اللبناني، أعلن نصر الله أن إسرائيل ما زالت تحتل مزارع شبعا وهي أراضٍ لبنانية، وطالما أن هناك أراضٍ لبنانية محتلة فإن حزب الله لن يسلّم سلاحه للدولة وسيبقى على حالة صراع مع إسرائيل.

المُفارقة أن مزارع شبعا وحسب قرارات الأمم المتحدة هي أراضٍ سورية، غير أن سوريا لا تقول ذلك، أما لبنان فتطالب بترسيم الحدود، وبين حانا ومانا ضاعت لحانا، وبقي مسمار جحا والذي يُعطي حسن نصر الله شرعية حمل السلاح!
 
راية قضية فلسطين

لطالما، استخدم حسن نصر الله راية الوطنية وقضية فلسطين بكل براعة، ونجح في التأثير في عواطف القوميين والوطنيين رغم كل المغالطات والسذاجة والسطحيّة في الطرح، ولم يخرج لقاؤه الصحفي الأخير عن ذلك، ففي الوقت الذي تعاني فيه إيران من أزمة دولية نتيجة تخلي إدارة ترامب عن الاتفاق النووي، وتجاوز إيران لبنود الاتفاق، قام حسن نصر الله بتحويل القضية الى مواجهة بين إيران وإسرائيل!

وهو بذلك يؤجج عواطف الشارع العربي بنيّة خداعه وتصوير أزمة إيران الحالية وكأنها أزمة مع إسرائيل بسبب احتلالها لفلسطين!

وحقيقة القول، إن أزمة إيران الحالية ليست بسبب إسرائيل وليس بسبب خلاف ايران مع أمريكا وسياستها في المنطقة، بل من أجل استعادة أمجاد الحضارة الفارسية الاستعمارية، وهي في سبيل ذلك تقوم بالضحك على الذقون بقصة فلسطين والقضايا الوطنية، واستعداء الخليج.

تذكّروا أنه في اللحظة التي سُمح لإيران بعقد اتفاق مع دول الغرب في سبيل استمرار مشروعها النووي لم تتردد في استغلال الفرصة، وحين يُعرض عليها التعاون مع إسرائيل في مشروع مستقبلي في المنطقة لن تتردد كذلك، طالما أنه يخدم مصالحها الخاصة.

مشروع إيران-حزب الله في المنطقة هو خدعة كبيرة، ورغم وضوح نواياه وتوجهاته الواضحة للعيان، إلا أن البعض ما زال يعتقد أنه المشروع الوطني الوحيد في المنطقة، نظراً لحالة الانبطاح التي يعاني منها العالم العربي، وسقوط كل الحركات الثورية والتحررية في مستنقع الاستسلام والخضوع، مما سهّل الأمر على حزب الله الضلوع بهذا الدور المسرحي لملء هذا الفراغ.

وإذا كنا كعرب، نخشى من قدرة إسرائيل النووية، فالأجدر أن نعمل على امتلاك هذه القوة، أو على أقل تقدير، العمل على تفكيك القوة النووية الإسرائيلية ضمن تحالفات دولية أممية، وبطرق ديبلوماسية، أما القيام بدعم دولة أخرى لديها طموح ضارب في التاريخ لامتلاك هذه القوة التدميرية، فهو ضربٌ من الجنون.

تناقضات خطاب حسن نصر الله

للدلالة على مدى التناقض والمغالطات التي احتواها خطاب حسن نصر الله الأخير، فقد ذكر بدايةً أن إيران وأمريكا لا تريدان الحرب، ثم قام باستخدام راية فلسطين للتلاعب بالعواطف فقال إن إيران ستضرب إسرائيل وبقوة إذا نشبت الحرب، بالإضافة إلى مصالح أمريكا في المنطقة، ثم ختم بالقول إنه إذا عرفت أمريكا ذلك فإنها لن تفكّر في الحرب!

وترجمة هذا الكلام هو التالي:
لا يوجد حرب، ولكن عليكم أيها الوطنيون العرب، ألاّ تنسوا أن إيران تُمثّل حلف المقاومة في المنطقة، وعليكم بالتالي أن تقفوا معها وتؤيدوا حقها في المشروع النووي!
أما الرسالة الخفيّة إلى دول الخليج، عليكم أن تلجموا جنون ترامب، لأننا سنقوم بضرب مصالحكم في المنطقة إذا حصل اعتداءٌ علينا، وليس أي شيء آخر!

وعود من العاصفة

في بدايات الحركة الثورية الفلسطينية عُرفت المقاومة حركياً ب "تنظيم العاصفة"، فظهر فصيل مسلّح باسم قوات العاصفة، وكانت أول قناة إذاعية تحمل اسم (صوت العاصفة)، كما نشرت أشعار واناشيد تتحدث عن وعود الثورة، منها قصيدة وعود من العاصفة لمحمود درويش، والتي غنّاها مارسيل خليفة فيما بعد، وهذه الوعود الثورية، هي التي أبقت على الأمل في صدور أبناء جيلي باستمرار المقاومة والعمل الثوري التحرري إلى حين بلوغ النصر والتحرير.

وبعد ان تخلّت قيادة منظمة التحرير عن راية النضال، وقبلت باتفاقيات الاستسلام في أوسلو، وتحوّلت بذلك من حركة ثورية إلى سلطة حكم محلي بإدارة الاحتلال، خلت الساحة لكل من يرغب باستلال هذه الراية ورفعها على المسرح السياسي، ونظراً لرغبة الجماهير في رؤية هذه الراية ترفرف ولو على المسرح، فإن وعود حسن نصر الله ستجد لها آذاناً صاغية وكفوفاً تُصفّق، وأفواهاً تزأر!   

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
14-7-2019

الأربعاء، 10 يوليو 2019

(ليبرا) عملة فيسبوك الرقمية موضوع الساعة






قرّر الكونغرس الأمريكي قبل أيام إيقاف الإجراءات التشريعية لعملة الفيس بوك الرقمية الجديدة (ليبرا Libra) داخل الولايات المتحدة، كما طالب الكونغرس إدارة فيس بوك وقف مشروع التطوير الخاص بهذه العملة.

وبرّر الكونغرس قراره بالحاجة الى دراسة التشريعات القانونية للعملة الرقمية الجديدة، ومدى تأثيرها على استقرار الأسواق العالمية، والعملات النقدية، معتبراً عملة الليبرا، مصدر خطورة على الاقتصاديات العالمية، ومُنافساً للدولار الأمريكي.

وكانت إدارة فيس بوك قد أعلنت في شهر حزيران الماضي، عن نيتها إصدار عملة (ليبرا) الرقمية منتصف العام القادم، ضمن تحالف كبير مع شركات عالمية أخرى، وسط توقعات عالية باكتساح سوق العملات الرقمية، بل ومنافسة العملات النقدية العالمية وعلى رأسها الدولار الأمريكي.

إذاً، نحن على أعتاب حرب اقتصادية كبيرة، قد تكون بداية النهاية للاقتصاديات الكلاسيكية والعملات النقدية، وبداية تحرر الأسواق من التبعيّة الاقتصادية لدول بعينها، والاحتكام إلى الدولار الأمريكي في معاملاتها.

ولتوضيح ذلك نقول، إن هذه العملة ستكون مُعزّزة بسلّة عملات ولها أصول دولية (غير تابعة لدولة واحدة) من الودائع والأوراق المالية الحكومية، وبذلك سيكون سعرها مستقراً في السوق، ولن تكون خاضعة للمُضاربات أي الارتفاع والانخفاض الشديدين في الأسعار، وهذا بالذات أول أسباب نجاحها المتوقع، على عكس عملة البيتكوين الحالية التي تعتمد على المُضاربة، وغير المُعزّزة بسلّة عملات ولا تحظى كذلك بأي غطاء نقدي.

لذا لن يكون اقتناء عملة الليبرا بهدف الكسب المباشر، بل لاستخدامها في المعاملات المالية، مما يعزّز من مكانتها كعملة رقمية بديلة عن العملات الورقية وغير خاضعة لإجراءات البنوك الروتينية.

وبمجرد طرح فيسبوك لتطبيق (محفظة كاليبرا) المُخصّص لإدارة عمليات العملة الرقميّة الجديدة، سيكون بإمكان مستخدمي الفيس بوك شراء هذه العملة وتخزينها في محافظهم، ثم القيام بعمليات التحويل النقدي فيما بينهم برسوم منخفضة جداً، لا يمكن للبنوك العالمية منافستها، لا من حيث العمولة ولا من حيث سهولة الاستخدام.
وبما أن فيسبوك تمتلك الواتس اب وانستغرام، فسيكون بالإمكان التحويل من خلال هذه القنوات أيضاً وبكل سهولة ويسر.

وهذا سيتيح لفيس بوك استهداف شريحة غنية جدا لا تمتلك حساباً بنكياً أو تُفضّل عدم استخدام البطاقات الائتمانية، حيث ستتيح هذه العملة الرقمية الجديدة الفرصة لمالكيها القيام بعمليات الشراء عبر الانترنت والدفع الالكتروني والتحويل المالي عن طريق عملة الليبرا مباشرة دون الحاجة الى حساب بنكي أو بطاقة الكترونية.
وتشير دراسات أعدّتها فيسبوك إلى أن نصف البالغين في العالم لا يملكون حسابات بنكيّة فعّالة.


وقد قامت فيسبوك لغاية هذه اللحظة بتوقيع اتفاقيات مع ثماني وعشرين شركة عالمية لإنشاء تحالف عالمي يتبنّى هذه العملة الجديدة تحت اسم Libra Association، على رأسهم ماستر كارد وفيزا وباي بال وأوبر، بالإضافة الى شركات تكنولوجيا عملاقة، مما يشكل حماية كبيرة لهذا العملة، ويعتبر داعماً كبيراً لها في الأسواق العالمية، وقنوات الدفع الالكتروني.

ومن هنا يتضح الخطر الكبير الذي تشكلّه هذه العملة على الأسواق العالمية، وبالأخص على الولايات المتحدة وعملتها الدولار الأمريكي، التي تعتمد وبشكل كبير على الطلب العالمي على الدولار واستقرار سعره في الأسواق العالمية، بحيث يعتبر العملة رقم واحد في العالم من حيث الطلب والعمليات المالية العالمية.

إلا أن هذا العرش العالمي سيكون مهدداً بالانهيار إذا ما نجحت عملة الليبرا في رؤية الضوء وكسب ثقة الحكومات والمؤسسات العالمية، بحيث تنجح رؤية فيس بوك في أن يتجه العالم رويداً رويداً لأن يصبح مجتمعاً غير نقدي.

إلا أن التحدي الأكبر الذي تواجهه عملة الليبرا يكمن في المجتمعات الفقيرة التي لا تعتمد على التكنولوجيا ولا يوجد لديها بنية تحتية متقدمة، سواء من حيث امتلاك الأفراد أجهزة هواتف متطورة أو إمكانية الاتصال بالإنترنت، واستخدام قنوات الدفع الالكترونية.

ويتمثل التحدي الآخر في حماية الخصوصية وضرورة ضمان السرية وعدم اختراق الحسابات والمحافظ الالكترونية.
وليس ببعيد عن الذاكرة فضائح فيسبوك مع خرق خصوصيات العملاء وكشف محتوى ملفاتهم ومشاركته مع شركات أخرى، مما يؤثر سلبا على ثقة العملاء في القيام بعمليات مالية من خلال تطبيقات فيس بوك.

كما أن العملات الرقمية بشكل عام تعيد إثارة التساؤل القديم المتجدّد، الذي أثارته ثورة تكنولوجيا الاتصالات من قبل، عن مستقبل العالم فيما إذا تحوّل في اعتماده بشكل كليّ على تكنولوجيا الاتصالات، وخطورة ذلك لا سيّما مع ازدياد فرص تعرض هذه التكنولوجيات لأعطال وانقطاعات عن الخدمة بسبب كوارث طبيعية أو حروب وغير ذلك، مما يؤثر سلباً على استقرار الدول والاقتصاديات، ومستوى الأمان المعيشي لدى الأفراد.

تخيّل أن تستيقظ يوماً فتجد أن ثروتك بالكامل موجودة على خوادم شركة أجنبية متعددة الجنسيات، أصولها النقدية موزعة في بنوك العالم، وأنت لا تملك اتصالا بالإنترنت، أو ان خوادم الشركة قد توقفت عن العمل لظرف طارئ!

في النهاية، لا بد من القول إن الثورة الرقمية في عالم الاقتصاد قادمة لا محالة، ولا مجال لإيقافها، وإن جميع المحاولات القائمة حاليا من الكونغرس وبعض الدول الأوروبية لتعطيل هذه الثورة تهدف في الأساس إلى كسب الوقت لإعادة تنظيم أسواقها بشكل يسمح لها حماية مصالحها.
ومن جهة أخرى فإن محاولات الضغط والرفض، تهدف إلى كسر إرادة هذا التحالف الجديد، ومحاولة السيطرة عليه والتحكّم في سوق العملة الرقمية بشكل يضمن مصالح هذه الدول، ويفتح لها مجال احتكار السوق الاقتصادية الجديدة بعيداً عن التنافس مع خصوم جدد.

وفي حال فشلت هذه الدول في مساعيها تلك، فإن العملة الرقمية ستكون سلاحاً اقتصادياً وسياسياً في يد بقية العالم، قد تكون خطورته أشد من امتلاك الأسلحة النووية!
   
 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
9-7-2019