الجمعة، 24 مايو 2019

*آيات استوقفتني (8) هل يعقوب هو إسرائيل؟ ومن هم بنو إسرائيل؟ *




في الأحاديث الشريفة ورد أن سيدنا محمد أشار إلى أن اسرائيل هو سيدنا بعقوب، وهذا يتوافق أيضاً مع ما هو ثابت عند اهل الكتاب. فهل هذا يتوافق مع القرآن؟

لا نجد في القرآن تأكيداً مباشراً على ذلك ولكن هناك إشارات واضحة ودلالات، دعونا نستعرضها سويةً

أولاً، دعونا نتفق أن سيدنا يعقوب هو والد يوسف وإخوته:
(وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(68)) سورة يوسف

وأن يوسف ورث النبوّة عن أبيه يعقوب الذي ورثها بدوره عن إسحق ومن قبل عن إبراهيم

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) (38) سورة يوسف

وأن يعقوب وأبناءه انتقلوا من منطقة سكنهم (البادية) إلى مصر وبقيت ذريتهم هناك إلى حين بعثة سيدنا موسى.

((فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ  (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100))) سورة يوسف

إذاُ، بعد بعثة يوسف لم يرد هناك أي ذكر لأي نبي، وبقي نسل يوسف وإخوته على نفس دينهم إلى بعثة سيدنا موسى، والدليل نجده في قصة سيدنا موسى والربط بينه وبين سيدنا يوسف.

((وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ)) غافر (34)

ونجد أيضاً في القرآن أن إسرائيل هو نبي الله وهو من ذرية سيدنا إبراهيم:

((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) مريم (58)

والدليل هو عطف ذرية إسرائيل على سيدنا إبراهيم (أي أن ذرية إسرائيل هي بالضرورة من ذرية سيدنا إبراهيم)

ومن مجمل السور القرآنية نستنتج أن سيدنا موسى قد بعث لقوم محددين من نسل واحد لنبي اسمه إسرائيل وهؤلاء القوم تواجدوا في مصر وفي الحضارة الفرعونية، وهو ما يشير بالتحديد إلى سيدنا يعقوب وأبنائه، وهو النبي الذي استمر تواجد ذريته على أرض مصر من عهد سيدنا يوسف الى عهد سيدنا موسى.

إشارات واضحة:

·       عدد أبناء سيدنا يعقوب اثنا عشر، يوسف وأحد عشر من إخوته بدليل (أحد عشر كوكباً)
·       في قصة سيدنا موسى، وهب الله قوم موسى اثنتا عشر عيناً لشرب الماء وقال الله تعالى (قد علم كل أناس مشربهم) أي أن قوم موسى ينقسمون إلى اثنتا عشر عائلة أو عشيرة معلومة الأصل (الأسباط)، وهذا يتوافق تماماً مع عدد أبناء سيدنا يعقوب.
·       الآية الكريمة التي تقول: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) آل عمران 93
وهذا يعني اختصار أن أبناء يعقوب (بني إسرائيل) قد استأنسوا بما كان يعقوب عليه السلام قد حرّمه على نفسه من الطعام (بدون تشريع موجب) فحرّموه على أنفسهم ثم انتقل هذا الأمر الى بقية الأجيال وكل ذلك قبل أن تنزل التوراة، فاختلط هذا التحريم مع التحريم الموجب بتشريع إلهي.

من هذا كله نستنتج ان سيدنا يعقوب هو صاحب اسم او صفة (إسرائيل) كما ذكر الله تعالى عن سيدنا يوسف لقب (الصدّيق) وعن سيدنا عيسى (المسيح) وعن سيدنا محمد (اسمه أحمد)، وعن سيدنا يونس (ذا النون).  

ونستنتج أيضاً ان المقصود ببني إسرائيل هم ذريّة سيدنا يعقوب (من يوسف وإخوته ونسلهم) والتي عاشت في مصر وبقيت هناك إلى حين أخرجها سيدنا موسى إلى أرض فلسطين، لكونهم شكّلوا قوميّة واحدة في بلد غير بلدهم الأصلية، فحافظوا من خلال تلك القومية على دينهم ولغتهم وثقافتهم رغم اختلاطهم بغيرهم من الثقافات والحضارات ولذلك عرفوا ب (أبناء يعقوب أو بني اسرائيل)، لدرجة أنهم احتفظوا بنسب عائلاتهم وصولاً إلى أجدادهم أبناء يعقوب الأوائل.


هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
23-5-2019

الثلاثاء، 21 مايو 2019

*آيات استوقفتني (7) وقفات مع سورة يوسف*




سورة يوسف من أحب السور والقصص القرآنية الى قلبي، وقراءتها ممتعة إلى درجة لا توصف، ومن أجمل الأوقات الروحانية في الشهر الفضيل هي صلاة قيام خلف إمام ذو صوت شجي يرتل سورة يوسف.

ولكن سورة يوسف فيها من دقائق الأمور التي نمر عليها مرور الكرام، فنعجز عن إدراك معانيها الصحيحة (أو الأقرب الى الفهم الصحيح). وسأحاول هنا استعراض بعض الومضات من سورة يوسف معتمداً على منهجية القراءة المعاصرة، راجياً من الله التوفيق.
كنت قد تحدثت في العام الماضي عن مكيدة إخوة يوسف، واليوم سنتحدث عن مكيدة إمرأة العزيز.

((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) (23)

كلمة ربّي هنا، تعود الى سيد المنزل (العزيز)، من مقام رب العمل ورب النعمة وليس من مقام الربوبية كما يظن البعض، ولا تنسوا أن يوسف هنا كان عبداً مملوكاً اشتراه العزيز بالمال.
ولتقريب المفهوم أكثر، عندما اشترى العزيزُ يوسفَ وأحضره الى المنزل قال لزوجته:

((وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ))

لاحظوا معي أكرمي مثواه -------< أحسن مثواي

إذاً يوسف بدأ بالرفض مستعيذاً بالله عن فعل المنكر (رافضاً الفاحشة من باب الإيمان أولاً) وفي ذات الوقت حافظاً لجميل سيده، ومذكّراً في الوقت ذاته تلك المرأة بزوجها وحسن خلقه (رافضاً الفاحشة من باب الأخلاق الحسنة ثانياً).

 ((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)) (24)

لاحظوا استخدام كلمة (ولقد) التي تفيد استمرار الحال من الماضي أي أن زوجة العزيز تولّدت لديها الرغبة من قبل، ثم تحوّلت هذه الرغبة إلى أفكار ثم إلى تصرفات وأفعال (كما ذكر الله تعالى في الآية السابقة) في حين قال عن سيدنا يوسف (وهمّ بها) أي عطفاً على المُغريات والحدث الذي عاشه تولّدت لديه رغبة آنية سريعة ولكنها لم تتحول إلى أفعال أو تصرفات ظاهرة.
ولاحظوا أيضاً استخدام كلمة (لولا) التي تفيد النفي والتوقف عمّا يتبع تلك الرغبة.

(لولا أن رأى برهان ربّه)
مفتاح الفهم هنا هو كلمه ربّه، والتي تعود أيضاً على سيده العزيز وليس الله سبحانه وتعالى، مع ملاحظة أن كلمة رب بمعنى رب العمل والنعمة قد ذُكرت أيضاً مع صاحبي السجن حين قال:
(أما أحدكما فيسقي ربّه خمراً)

إذاً، رأى يوسف ما يُعتبر دليلاً على عودة سيده الى المنزل، وقد يكون هناك مجال للرؤية الخارجية مكّنه من رؤية موكب العزيز أو بعض من جنده وخدمه فعلم أنه عاد الى المنزل.
أو أنه رأى رؤيا بوحي من الله تعالى استشعر من خلالها عودة العزيز المفاجئة إلى المنزل.
(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)
وتزامنت هذه الرؤيا مع وحي من الله سبحانه وتعالى بخلاصه من هذه الورطة وعدم مساسه بسوء ونجاته من فعل الفحشاء، وأن سيده العزيز سينصفه.
وللتذكير فإن الله سبحانه وتعالى قد أوحى ليوسف من قبل في مكيدة إخوته لطمأنته:

((فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون))َ (15)

لذلك كان التصرف اللاحق ليوسف هو البدء بفتح الأبواب التي غلّقتها زوجة العزيز ومحاولة الوصول الى باب المنزل الخارجي للقاء العزيز، في حين كانت هي تحاول شدّه وجذبه ومنعه من الخروج.
تخيّلوا معي هذا المشهد وتابعوا الوصف القرآني:

((وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (25)

لاحظوا معي كلمة الباب بأل التعريف والتي تفيد الباب الرئيسي المعلوم، ولو كان باباً آخر لكان لزاماً عطفه على اسم آخر للتعريف كأن نقول باب الغرفة أو باب الصالة وهكذا.
ولاحظوا أيضاً استخدام كلمة (سيدها)، لماذا اختار الله سبحانه وتعالى وصف العزيز نسبة الى امرأته وليس الى يوسف؟ لأن علاقة العزيز بيوسف هي علاقة ظرفية وطارئة، بينما هو سيد هذا البيت من قبل وجود يوسف، فكان الأجدر وصفه بهذه الصفة ونسبها (صفة السيد) الى زوجته.

إذاً وصلا الى باب المنزل الرئيسي والتقيا وجهاً بوجه مع العزيز وحصلت المفاجأة، ولكن زوجة العزيز كانت شديدة الذكاء والمكر وكانت سريعة ردة الفعل أيضا فسارعت الى اتهام يوسف وطلب العقوبة له، فما كان من يوسف إلا أن دافع عن نفسه، وهنا جاء دور الشاهد.

((قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ(26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27)))

تخيلوا معي المشهد أمام منزل العزيز، والشاهد هو بالضرورة أحد مرافقي العزيز العائدين معه الى المنزل وهو من أهل زوجته، وقد سمع الجدال القائم، ولكنه ما زال خارج المنزل ولم يتمكن من رؤية يوسف ولا زوجة العزيز، لهذا قام بتقديم شهادة خبير وليس شهيد واقعة، فقال: إن كان ثوب يوسف قد تمزّق من الأمام فهو الذي اعتدى وإن كان قد تمزّق من الخلف فقد كان يحاول الهرب منها.

((فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)))

وهنا بدأ العزيز بالتدقيق في أمر يوسف بعد أن تحرّر من المفاجأة، وبدأ بالتحقق من شهادة الشاهد، فلاحظ أن ثوب يوسف قد تمزّق من الخلف فأدرك حينها كيد زوجته وصدق يوسف.

ملاحظة: لاحظوا معي الانتقال في الخطاب واختلاف الضمير بين الآيتين المتتاليتين (وشهد شاهد، ثم تلاها: فلمّا رأى) الفعل هنا يعود إلى شخصين مختلفين ولكن القرآن لم يستخدم في الآية الثانية اسم الفاعل مثل الآية الأولى، كما هو متوقع في قواعد اللغة العربية (فلما رأى العزيز) وهذا ما تحدثت عنه في الموضوع السابق عن تنوع الضمير والانتقال المفاجئ للخطاب، وهو سر من أسرار فهم القرآن.

هذا ما اجتهدت به فإن كان صواباً فهو من توفيق الله، وإن كان خطأً فهو من تقصيري.

هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
20-5-2019


#آيات_استوقفتني #سورة_يوسف

الأحد، 19 مايو 2019

*آيات استوقفتني (6) فإن تولّوا فقل حسبي الله*



((لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129))) التوبة

كان والدي رحمة الله عليه، يكثر من قراءة خواتم سورة التوبة في الصلوات الجهرية التي يؤمّنا فيها، وكان لها وقع خاص بقراءته تلك، وحفظت هذه الآيات عنه، ثم لاحقاً أصبحت أقرأها في الصلوات الجهرية أيضاً.
ولكني كنت دائم التفكير في الضمير المستخدم في هذه الآيات، فبداية الآية 128 تبدأ بضمير المُخاطب (لقد جاءكم) ثم في الآية التي تليها مباشرة يصبح الخطاب بضمير الغائب (فإن تولّوا) مما يولّد لدى القارئ اضطراب في الفهم للوهلة الأولى.

وبالاعتماد على منهجية القراءة المعاصرة للقرآن، نرى أن الآيات تقسم الى ثلاثة أجزاء:

(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم)
وهو خطاب موجه إلى قوم سيدنا محمد (العرب) وبالأخص أهل قريش: (لقد جاءكم رسول من قوميتكم يعز عليه ما يشق عليكم وشديد الحرص عليكم وعلى هدايتكم)
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)
وعطفاً على الجملة الأولى، يقول الله تعالى إنه (أي محمد) كثير العطف والرحمة على أتباعه المؤمنين.

إذاً، يتضح هنا أن هناك خطاب عام لقريش وللعرب، وهناك إخبار عن رأفة سيدنا محمد بالمؤمنين أتباعه.
ثم تبدأ الآية التي تليها مباشرة باستخدام ضمير الغائب (فإن تولّوا) والذي يعود على ما سبقه من (المؤمنين أتباع محمد وقوم قريش) والخطاب هنا تحوّل مباشرة إلى سيدنا محمد بالقول (إن حصل وأن تخلّى عنك قومك وأتباعك وتركوك فرداً، فحسبك الله وحده، وتوكل عليه لا إله الا هو، رب العرش العظيم)

لاحظوا معي، مدى دقة الوصف واستخدام المفردات مع تنوّع وتنقّل الخطاب، حيث بدأ من العام (العرب) الى وصف الخاص (أتباع محمد) ثم الى المفرد (شخص محمد)

ويعدّ تنقّل الخطاب (من خطاب قريش إلى خطاب سيدنا محمد) وتنوّع الضمير (المُخاطب والغائب) من المميزات التي تفرّد فيها القرآن، وخرج فيها عن المألوف من الأدب العربي، كما لا تجري عليه قواعد اللغة التي وضعت بعده من قبل علماء اللغة.
وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان الى صعوبة فهمنا وتفسيرنا لبعض الآيات، لأننا نحتكم الى المألوف، ونلتجأ إلى قواعد اللغة لتيسير الفهم.
ولهذا أقول إن تدبّر القرآن بمجمله واستيعابه وإدراك قواعده ومنهجيته الخاصة التي تنبع من ذاته هو شرط أساسي لفهمه وتدبره على الشكل الصحيح، وبغير ذلك سنبقى في إشكاليات غير قادرين على تجاوزها.

ملاحظة أخيرة عن دقة استخدام (فإن) والتي تفيد الاحتمالية، لاحظ معي قول الله تعالى (إن كان قميصه قدّ من قبل) أي أن هناك احتمال أن يكون قدّ من دبر، على خلاف كلمة إذا التي تفيد الظرفية:

(فإذا أفضتم من عرفات) وهنا تفيد "عندما أو حين" تفيضوا من عرفات افعلوا كذا.
هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
18-5-2019


#آيات_استوقفتني #الخطاب_في_القرآن

الجمعة، 17 مايو 2019

*آيات استوقفتني (5) ما المقصود بالمغضوب عليهم والضالين، والذين أنعم الله عليهم؟*

((صِرَاطَ الَّذِينَ أنعمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)) الفاتحة 7  

هذه هي آخر آيات الفاتحة، وآخر الثنائيات
(الذين أنعمت عليهمó     غير المغضوب عليهم ولا الضالين)

*من الذين أنعم الله عليهم؟*

((وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنعم اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)) النساء (69)

إذاً كل من يطيع الله والرسول بحق كان حقاً على الله أن يجعله مع فئة الذين أنعم عليهم، والتي تضم قائمة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
(وحسن أولئك رفيقا)، أي رفقاء في الجنة بفضل الله. لذلك كان من الدعاء المأثور أن يدعو المؤمن (اللهم أدخلنا الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)
ولاحظوا أن الله سبحانه وتعالى عطف الصراط المستقيم على الذين أنعم عليهم (صراط الذين أنعمت عليهم)، أي أن هذا الصراط المستقيم هو نهج الذين أنعم الله عليهم، وكل من اتبعه والتزم به فهو من الذين أنعم الله عليهم، وهو رفيق الأنبياء والشهداء والصديقين وكافة الصالحين في الجنة بإذن الله.

*غير المغضوب عليهم ولا الضالين*

من المؤسف أن تذكر كتب التفاسير أن المقصود هنا هم اليهود والنصارى، فحاشى لله أن يجعل الضلال والبعد عن رضاه محصوراً في أمة واحدة أو ملة واحدة دون تفريق بين مؤمنهم وكافرهم، أو أن يبارك في أمة أو ملة بأكملها دون التفريق بين المؤمن منها والكافر.

دعونا نحتكم الى كتاب الله:

((وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا))  (93) النساء

((مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (106) النحل

((كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى))  (81) طه

((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا))  (6) الفتح

إذا كل من يخل بشروط الايمان الصحيح ويكفر بالله أو يدخل في دائرة النفاق والشرك فهو من المغضوب عليهم، سواء كان من أتباع سيدنا محمد أو غيره من الأنبياء.

*الضالون*

((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ))

قبل الإسلام كانت مناسك الحج على سنّة إبراهيم، ولكن العرب حرّفوها وادخلوا طقوسا وثنية فوصفهم الله بالضالين

((قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ))

يقول موسى عن نفسه انه كان من الضالين قبل النبوّة

((فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ))

ويقول سيدنا إبراهيم ان لم يهدني ربه الى سبيله الصحيح لأكونن من الضالين

((وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93)))

ويقول الله سبحانه وتعالى ان كل مكذّب بالدين واليوم الآخر هو من الضالين

إذاً، كل من ضلّ عن الايمان بالله واليوم الاخر، وضلّ عن الصراط المستقيم الذي حدّده الله سبحانه وتعالى هو من الضالين، وهذا الفهم ليس محصورا في قوم معين او ملة معينة.

ونوجز القول بأن كل من أخلّ بشروط العبادة والصراط المستقيم، فهو من المغضوب عليهم
((مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ)) وبدليل قوله (*غير* المغضوب عليهم) أي باستثناء هذه الفئة التي عرفت الصراط المستقيم ولم توفِ بشروطه

وكل من رفض نهج الله واتبع سبل الشيطان وصد عن الصراط المستقيم فهو من الضآلين.  

لهذا فنحن ندعو ونقول في كل قراءة لسورة الفاتحة، رب اجعلنا من الذين يتبعون صراطك المستقيم فتنعم عليه، ولا تجعلنا نزلّ فنكون من المغضوب عليهم، واهدنا سبيلك كي لا نضلّ عنه فنكون من الضآلين.


ومع نهاية تناولنا لسورة الفاتحة (السبع المثاني) أوجز معكم ما اجتهدته من الثنائيات الواردة في هذه السورة (المثاني):

1.      الألوهية والربوبية
2.      الرحمن الرحيم
3.      الايمان بالله واليوم الآخر (وتتضمن مفاهيم الدنيا والآخرة، الحياة والموت، البعث والنشور، الثواب والعقاب، الجنة والنار)
4.      العبادة والاستعانة
5.      الصراط المستقيم (صراط الذين أنعمت عليهم)، ونقيضه سبل الشيطان
6.      المغضوب عليهم والضآلين

وهذه هي مجمل المواضيع التي وردت تفاصيلها في باقي سور القرآن.

هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
16-5-2019

الأربعاء، 15 مايو 2019

*آيات استوقفتني (4) إياك نعبد وإياك نستعين*اهدنا الصراط المستقيم*



نستمر مع فاتحة الكتاب والسبع المثاني، ونتحدث اليوم عن ثنائية (العبادة والاستعانة بالله) وصراط الله المستقيم، وهذه المواضيع من أهم المواضيع التي يركز عليها القرآن العظيم في مجمل آياته، والتي تعتبر ركائز الدين القويم (الطاعة والاستعانة ومجموعة الأخلاق والقيم الإنسانية).

*مفهوم العبادة*:
هناك تركيز كبير في الفقه الإسلامي على حصر مفهوم العبادات في شعائر الصلاة والحج، وفروض الصوم والزكاة، ولكن مفهوم العبادات يتجاوز ذلك بكثير.

((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) النحل (36)

فكل الرسالات جاءت بشيء مشترك هو عبادة الله وتجنب الطاغوت وسبل الشيطان، والعبادة هي الطاعة والخضوع والانقياد لله سبحانه وتعالى في جميع شؤون الحياة، بالالتزام بأوامره واتباع تعاليمه وتجنب نواهيه ومخالفة أمره.

((ويَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) الحج (77)
((فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99))) الحجر

هنا يتضح ان العبادة أشمل من الشعائر وحدها، فلاحظوا كيف جاءت العبادة مستقلّة عن الركوع والسجود (أداء الفرائض)

((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ))

وهذه الآية أيضاً، توضح المعنى المطلوب من العبادة وهي بالإيمان بالله (التوحيد) واتباع أوامره ونواهيه والإخلاص في الدين وليس فقط في الشعائر أو ما يعرف اصطلاحا بالعبادات.

وهذا يعني بالضرورة أن العبادة ليست محصورة في مكة والمدينة والمساجد ودور العبادة، بل هي عبادة مفتوحة في كافة جوانب الدين، وتشمل كافة أمور الحياة. ولعل هذا القصور بالفهم، هو ما جعل ميزان الدين مختلاً في مجتمعاتنا، وجعل الاهتمام بالشعائر والفرائض مُقدماّ على جانب المعاملات وحقوق المجتمع واحترام حقوق الآخرين.
والمؤسف أيضاً أن بعض رجال الدين والعلماء يعززون هذا القصور في الفهم عند العامة، في تركيزهم الكبير على الفرائض في مقابل التجاهل التام للمعاملات في المجتمع ومجموعة القيم الإنسانية (الصراط المستقيم)
ومن الملاحظ ان هناك غياب شبه كامل لدور الخطباء ودروس الدين في الحث على حسن التعامل والتحلّي بالأخلاق الحسنة ومراعاة الله في كل كبيرة وصغيرة، في مقابل التركيز على موضوع الفرائض والطهارة والتخويف من يوم الحساب.
وأذكر أن أحد الخطباء والعلماء المعروفين قال في إحدى خطبه إن الله لن يحاسبك إذا قطعت إشارة ضوئية أو عصيت بعض القوانين المدنيّة ولكنه سيحاسبك إذا أفطرت في رمضان أو أخلّيت في الصلاة. وهذا مثال حي على تعزيز القصور في فهم العبادة على وجهها الصحيح، كما طالبنا بها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.

أما معنى الاستعانة والذي اقترن بالعبادة، فهي تعني الأخذ بالأسباب والاجتهاد والصبر مع طلب العون من الله سبحانه بنيّة التوفيق والرشاد.

((قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ)) الأعراف: 128

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) البقرة: 153

ما يعني أننا نستعين على أمور حياتنا بطلب الرشد من الله سبحانه وتعالى والاهتداء بهديه واتباع منهجه وسبيله. فما أجمله من معنى، حين نقول إياك نعبد، أنت وحدك، ومنك وحدك نطلب العون والرشد في أمور حياتنا، بحيث ان امتثالنا بأوامرك والتزامنا بعبادتك سيكون أكبر عون لنا على العيش الكريم والهنيء، فأرشدنا وأعنّا على الطاعة.

*ما هو الصراط المستقيم*

أما الصراط المستقيم فهو مجموعة الأخلاق والقيم الإنسانية (إضافةً إلى المُحرّمات المذكورة نصّاً) والتي تعتبر فلسفة حياة ومجموعة من المبادئ التي يتبناها المؤمن في طريقة حياته، والتي تجعل من حياته وشخصيته وتعامله صراطاً مستقيماً لا يحيد عن الحق ولا ينحرف، وهذا هو معنى الاستقامة.

((وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ))

لاحظوا الأمر بالعدل والصراط المستقيم

((وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  (153))) الأنعام

لاحظوا كيف جاءت الوصايا والقيم الإنسانية في هذه الآية ثم تلاها (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)

إذاً هناك تكامل بين العبادات (بمفهومها الشامل) والاستعانة وطلب الهداية من الله، ثم اتباع سبيله في الحياة (الصراط المستقيم) كي يكتمل ايمان الفرد، ويكون أنموذجاً أو مثالاً للمؤمن الصادق، وكي ينعكس هذا على طمأنينته وراحته النفسية.

والسؤال هنا، ما هو نقيض هذا الصراط؟

((قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ  (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ  (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ  (16))) الأعراف

لاحظوا معي أن إبليس توعّدنا بأن يقعد لنا صراط الله المستقيم ويحرفنا عنه، وهذا كفيل باختلال ميزان الحياة لنا كأفراد ومجتمعات، وكفيل بهدم منظومة الدين كلها.

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)) (208) البقرة

إذاُ فالثنائية هنا، هي الصراط المستقيم وهو سبيل الله وما يقابله من سبل الشيطان (شياطين الانس والجن) ومحاولات حرفنا عن هذا الصراط.

أعجبني تشبيه أحد الدعاة للمنظومة الدينية أنقله ببعض التصرف، يقول إن الدين بناء جميل، أساساته وإنشاءاته هي الايمان والفرائض، وتشطيباته الداخلية مجموعة العبادات (الالتزام بالأوامر والنواهي)، أما أثاثه وفرشه فهو مجموعة الأخلاق والقيم الإنسانية.
فإذا خلا إيمان المرء من القيم والأخلاق كان فارغاً جلفاً، لا يحتوي سوى على مظاهر خارجية بلا معنى للحياة.
وإذا خلا من الايمان والفرائض، كان جميلاً ولكن لا أساس له، وما أسرع أن ينهار.

   اللهم اجعلنا وإياكم ممّن عبد الله مخلصاً له الدين واستعان به وحده على أمور الحياة، واتبع صراطه المستقيم.

هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
14-5-2019

الاثنين، 13 مايو 2019

*آيات استوقفتني (3) مالك يوم الدين*



بعد ثنائية الرحمن الرحيم، تنتقل الآيات بنا للهدف النهائي لوجود هذا الكون

((وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ)) سورة هود (7)

ويشدّد الله سبحانه وتعالى على أنه*مالك يوم الدين* وأن يوم القيامة والحساب كله مرهون بأمره:

((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)) الأنعام (73)

((يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار)) 16 غافر

((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) الزمر (67)

((وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19))) الانفطار

إذاً هناك تشديد، على أن الله هو المالك والمتحكم والمسيطر على كل شأن يخص يوم الدين، فهو مالك يوم الحساب والآخرة بكل دقائق أموره، بدءاً من نهاية الكون والبعث والنشور وامور الحساب والثواب والعقاب.

((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)) طه (108)

والحديث عن يوم الجزاء والحساب من أعظم المواضيع التي ذكرها القرآن، بل إن الايمان باليوم الآخر هو شرط من شروط الإسلام، بعد الايمان بالله تعالى، فبدون الايمان بالآخرة لا يصح إيمان الفرد

((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) (62) البقرة

 وهذه هي الثنائية الأبرز (الايمان بالله واليوم الآخر) في قولنا *مالك يوم الدين* فنحن نقرّ بإيماننا المطلق بوجود البعث والحساب ونقرّ لله سبحانه وتعالى بالحكم المطلق في تقرير مصائرنا وحسابنا على أعمالنا.

((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)) طه (111)

والحديث عن يوم الدين، يستدعي الحديث عن ثنائيات عديدة أخرى، أولاها ثنائية الموت والحياة:

((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) الملك (2)

وفيه ثنائية البعث والنشور، وهي جوهر الايمان باليوم الآخر:

((قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)) (82) المؤمنون
((قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)) 65 النمل

((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ)) (9) فاطر
والثنائية الأخرى، هي الثواب والعقاب والتي تقترن أيضاً بيوم الحساب:

((الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) (17) غافر

 ((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)) (82) الشعراء

والثنائية التي تليها بالضرورة، هي ثنائية الجنّة والنار، وهو الموضوع الذي يمتلئ به القرآن الكريم باستخدام الترغيب والوعيد، وهو موضوع رئيس في آيات القرآن.

((الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (57))) سورة الحج

إذاً، نجمل القول: بعد بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد الاعتراف والاقرار بالألوهية والربوبية لله تعالى وحده، وبعد توضيح صفة الله سبحانه وتعالى في الحُكْم (الرحمن) وارتباطه بالرحمة، تأتي الآية التي تشهد لله بخلق هذا الكون كله لآجل هدف نهائي واحد هو الثواب والعقاب، ومن أجل هذا الهدف خلق الله الموت والحياة، وقضى بالبعث والنشور وجعل الحساب يوم القيامة، وأقر بميزان العدل المطلق في الحساب حيث يقول:

((وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)) أي أن المقياس والمعيار يوم الحساب هو المقياس الحق الذي لا يخل ولا يعتل ولا يغبن أحداً:
((مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ (9))) الأعراف

رأينا كيف جاء الانتقال بين المواضيع مرتباً من توحيد الألوهية والربوبية الى توضيح سنة الكون وحكم الله فيه بالرحمة، إلى الحديث عن الهدف النهائي والمطلق لهذا الخلق، وما يتضمنه من سنة الحياة والموت، وحقيقة البعث والنشور، وضرورة الايمان باليوم الآخر ويوم الحساب، والثواب والعقاب والجنة والنار.
 ثم ينتقل الحديث إلى طريق الهداية ومنظومة العبادة والأخلاق والقيم الإنسانية، وهذا ما سنتحدث عنه في الموضوع القادم إن شاء الله.

جعلنا وإياكم ممّن حسن عمله وثقل ميزانه.


أيمن يوسف أبولبن
12-5-2019

السبت، 11 مايو 2019

*آيات استوقفتني (2) الرحمن الرحيم*



نستمر مع فاتحة الكتاب ومع قوله تعالى بعد الحمد لله رب العالمين، (الرحمن الرحيم).
جميع التفاسير اتفقت على أن الرحمن والرحيم تدلان على الرحمة. ولكن دعونا ننظر في القرآن الكريم.
في البداية حدّد الله سبحانه وتعالى اسمين فقط من أسمائه لندعوه بهما دون باقي أسمائه الحسنى وهما *الله* و *الرحمن*

((قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً))
 (110) الاسراء 

ومن لطائف كلمة الله أن جميع تشكيلاتها من الحروف تدل على الله تعالى وحده، فلو حذفنا الحرف الأول تصبح الكلمة (لله) (لله ما في السماوات وما في الأرض) ولو حذفنا حرف اللام لأصبحت (لهُ)
(وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ)
ولو حذفنا اللام الثانية لبقي حرف الهاء (هو) (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)

فكلمة الله بجميع تشكيلاتها خالصة لله تعالى، وكذلك الرحمن، فلا تستخدم هاتان الكلمتان في غير مقام الله سبحانه وتعالى، وهو يُعرف بهما. بينما يمكن لنا القول ان فلاناً من الناس رحيم أو صادق أو عليم أو شهيد أو حافظ ....الخ.

والآن دعونا نتدبر في الآيات التي ورد فيها اسم الرحمن
(يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)  (45) مريم
(إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (93) مريم
(يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) طه  (109)
(الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) الفرقان  (59)
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) يس  (52)  

هذه الآيات وغيرها تدل على أن أوصاف الرحمن هي منتهى القوة والمُلك والحسم والتدبير وهذه هي الصفات اللازمة لتوازن الكون وانضباطه وكأني بالرحمن هو اسم الله الدال على مجموعة القوانين الضابطة للكون والخلق التي تنمّ عن الضبط والحزم والحسم، أي صفات الحُكم والقيّوميّة. وفي علم الإدارة يُشار الى هذه الوظيفة ب (The Governance).
فإذا أضفنا له صفة الرحيم، أصبح الكون محكوما بالقوة والضبط والحسم والرحمة والعطف، لأنه بدون رحمة للبشر والمخلوقات سيكون الانضباط فوق طاقتهم، فدائما ما يقترن الحكم الإلهي بالرحمة.

وهذه هي الثنائية الثانية الواردة في فاتحة الكتاب والتي تشكّل الموضوع الثاني من مواضيع الكتاب الكريم والتي توزّعت عبر سور كثيرة وآيات متعددة وجميعها تدور حول قوانين ونواميس الحكم الضابط الخالي من العبث، والميزان الذي لا يختل، وهذا يجتمع في قالب واحد (ثنائية) مع العدل والرحمة الواسعة لله تعالى والتي تشمل العفو والتوبة والمغفرة. لاحظوا معي صفات الرحيم:

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
(قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

وحال المؤمن فينا هو دائم الخوف من الرحمن ودائم الرجاء من الرحيم، وبين الرحمن والرحيم يتعلّق مصيرنا، لهذا كان لزاماً علينا في كل صلاة التوجه لله تعالى بالمناجاة والقول (بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم)

جعلنا وإياكم ممن تاب عليه الرحيم وغفر له، ورضي الرحمن عنه.

أيمن يوسف أبولبن
10-5-2019