الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

رُبْع قرن على خطيئة أوسلو!



في عام 1979 وفي ظل وجود منظمة التحرير في لبنان وإحكام سيطرتها على منطقة التماس الجنوبية مع إسرائيل، كانت للنرويج آنذاك علاقات تجارية مع إسرائيل، من أهمها تزويد إسرائيل بالنفط، ونظراً لخشية حكومة النرويج من تأثير ذلك التعاون على أمن جنودها المشاركين في قوات حفظ السلام في جنوب لبنان، فقد قامت بالتواصل مع أبو عمار شخصياً لضمان عدم المسّ بأمن جنودها، وقد تفاجأ موفد الحكومة النرويجيّة باستجابة أبو عمّار السريعة، مع طلب وحيد بدا غريباً: (عندما نحتاج الى قناة خلفية للتفاوض مع الإسرائيليين ستلعبون أنتم هذا الدور)!!.

وبعد مضي نحو 12 عاماً، وفي الوقت الذي كان فيه الوفد الفلسطيني الرسمي (الذي يمثّل كافة أطياف الشعب الفلسطيني) يخوض مفاوضات "حل الدولتين" المنبثقة عن مؤتمر مدريد، فتح أبو عمار الباب الخلفي لمفاوضات أوسلو التي جرت في الخفاء وبإدارة مجموعة صغيرة مقرّبة منه، وانتهت باعتراف منظمة التحرير الفلسطينية وبشكل رسمي بدولة إسرائيل ونبذها لكافة أشكال المقاومة.

كواليس المفاوضات


من مفارقات كواليس مفاوضات أوسلو، أن الوفد الإسرائيلي قام بتقديم ملف يحتوي على 100 سؤال للوفد الفلسطيني، من أجل الحصول على فكرة عامة حول النوايا الفلسطينية والأهداف الاستراتيجية من عملية السلام، والخطوط الحمراء (إن وجدت).
المفاجأة، لم تنحصر في أن وفد فتح، قدّم إجابات لجميع الأسئلة، وأن أيّاً من هذه الأجوبة يحتوي على خطوط حمراء، ولكن المفاجأة الحقيقية كانت عدم طرح مفاوضي فتح أي سؤال على الوفد الإسرائيلي!
بعبارة أخرى، لم يأتِ وفد فتح بعقليّة التفاوض بل كان في انتظار ما سيمنحه الإسرائيليون له في تلك اللحظة التاريخية، وهذا بالتحديد ما أدّى في النهاية إلى إملاء الإسرائيليين لكافة شروطهم!

أحد الأسئلة كان: (هل توافقون على بناء مستوطنات في الأراضي التي تقع ضمن منطقة الحكم الذاتي؟) والجواب كان نعم!
لذا، من الطبيعي أن نعلم، أن عدد سكّان المستوطنات كان عند توقيع اتفاقية أوسلو نحو 115 ألفاً (في أراضي 67) في حين يتجاوز عددهم اليوم 450 ألفاً!

نقض ثوابت الثورة الفلسطينية

 

بعد مرور ربع قرن على اتفاقية أوسلو، وتكشّف كواليسها وملابساتها، يبدو واضحاً للعيان لكل باحث ومحلّل، أن أبو عمار (والتيار الموالي له داخل قيادة فتح) كان يتبنى وجهة نظر براغماتيّة تعتمد على أن الهدف من عمليات الكفاح المسلح هو الوصول الى طاولة المفاوضات، ثم محاولة تحقيق أفضل المُتاح بعد ذلك، فالمقاومة في النهاية وسيلة أما الغاية فهي الوصول الى حلٍ سياسي مُرضٍ.
المفارقة، أن هذه الاستراتيجية تتعارض عمودياً مع ثوابت الثورة الفلسطينية المُعلنة، ومبادئ فتح بالذات، وهذه الثوابت تنص صراحةً على أن الغاية من الكفاح المسلّح هي "تحرير كامل التراب الفلسطيني"، وأن حدود الوطن من البحر الى النهر، فلا صُلْح ولا اعتراف ولا تفاوض.
بل إن منظمة التحرير كانت (قبل أوسلو) تشدّد على رفض قراري مجلس الأمن 242 و338 وهما ذات القرارين اللذين ارتكزت عليهما اتفاقيه أوسلو.
وهذا يقودنا إلى القول إن مأساة أوسلو كانت مُضاعفة، فمن جهة، كان ثمن أوسلو حياة عشرات الألوف من الشهداء والضحايا الأبرياء، وتدمير عشرات المدن وتشريد مئات الألوف. ومن جهة أخرى، فإن المأساة الأعظم، أن هذا الثمن الباهظ كان بلا مقابل!

تجاهل الحديث عن القضايا المهمّة


استراتيجية الوصول إلى طاولة المفاوضات، تفسّر لنا لماذا خلت اتفاقية أوسلو من أي بند يتحدث عن إنهاء الاحتلال أو وقف الاستيطان، أو أدنى إشارة إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
ويفسّر أيضاً، خلو وفد المفاوضات الفلسطيني "السرّي" من أي خبير في مسائل النزاعات الدولية والقانون الدولي، وخلوّه أيضاً من أي أكاديمي مختص بالتاريخ (البُعد التاريخي-الثقافي للنزاع) والمقدّسات (البُعد الديني للقضية)، ناهيك عن عدم وجود أي مفاوض من داخل الأراضي المحتلة، يتناول قضايا الفلسطينيين تحت الإحتلال!

خطيئة من جهة وعبقرية من جهة أخرى


من سخرية الأقدار، أن اتفاقية أوسلو كانت هدفاً بحد ذاتها لكلا الطرفين، فمن وجهة نظر المفاوض الإسرائيلي، كانت هذه الاتفاقية وسيلة لنقل مسؤولية وتبعات الاحتلال الى سلطة محلية تنصاع لأوامر الحكومة المركزية وتخضع لشروطها، كما أنها تضع سقفاً للمطالبات الفلسطينية، دون أن تُلزم إسرائيل بأي إجراءات أخرى، في حين تضمن الاعتراف الكامل بشرعيّة الاحتلال وتفتح الطريق لترسيخ وجود دولة إسرائيل، واقتحامها أبواب المنطقة العربية.

أما من جهة أبو عمار وقيادة فتح، فكانت هذه الاتفاقية تعني اعتراف العالم بمنظمة التحرير ونزع صفة الإرهاب عنها، بما يضمن تحوّل قادتها إلى رجال سلطة معترف بهم. بالإضافة إلى إنهاء حالة التشتّت التي تعاني منها المنظمة واضطرارها للتنقّل بين عواصم البلاد العربية. وكان ذلك على ما يبدو أقصى ما يمكن التوصّل اليه من وجهة نظرهم.
وصف إدوارد سعيد هذه الاتفاقية بالعبارة الموجزة التالية: (منظمة التحرير الفلسطينية حوّلت نفسها من حركة تحرّر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة).

من هذا المنظور يمكن القول إن أوسلو كانت الخطيئة الكبرى للقيادة الفلسطينيّة، والخطوة العبقريّة الأعظم في تاريخ المشروع الصهيوني، فإذا اعتبرنا أن مشروع الدولة قد قام على وعدٍ أجنبي مكتوب، فإن الاعتراف بهذه الدولة وتفكيك كل وسائل تقويضها، جاء هذه المرة من "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، وبذلك تحوّلت فكرة الدولة من ورقة، إلى ميثاق دولي تصونه الأمم المتحدة!
 ناهيك عن القول إن سُكّان الأرض الأصليين قد قبلوا بالحصول على أقل من 22% من مساحة الوطن (في أحسن الأحوال)، على أن يكون شكل الحكم فيها "حُكماً ذاتياً" وليس دولة مستقلة ذات سيادة، وهذا ما يتجاوز توقعات القادة السياسيين في دولة الاحتلال.

في الختام نقول، كما أن الاعتراف بالخطيئة هو بداية طريق التوبة، فإن الاعتراف بخطيئة أوسلو هو بداية الطريق لتصحيح مسار الثورة، يضاف اليه، إسقاط هذه الاتفاقية ونبذ كل ما انبثق عنها، والعودة الى ثوابت الثورة الفلسطينية.
مُضيّ ربع قرن على اتفاقية أوسلو كان كفيلاً بإعادة القضية الفلسطينيّة خمسين عاماً إلى الوراء، والأسوأ من ذلك، أن نعلم أن الانحدار سيظل مستمراً، إذا ما أصررنا على التعامل مع الواقع بذات العقلية وذات الشخوص التي قادتنا إلى ممارسة الخطيئة في الظلام، ثم المجاهرة بها بعد أن استمرأنا فعلتنا.

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

18-9-2018

الاثنين، 10 سبتمبر 2018

ذوبان الطبقة الوسطى وخطر انهيار الأمن الاجتماعي



تؤدي الطبقة الوسطى دوراً حيويا في إحلال التوازن الاجتماعي وما يصاحبه من توازن سياسي واقتصادي للدولة والمجتمع، وكلما اتسعت الطبقة الوسطى في المجتمع ونمت، كان ذلك مؤشراً إيجابياً.
فالطبقة الوسطى غالباً ما تتكون من فئة التجار وأصحاب المنشآت الصغيرة، وموظفي القطاع الخاص، وهي طبقة غالبها من المُثقّفين والمهتمين بشؤون المجتمع والمتذوقين للفن والأدب، الذين يتميزون بقدرة مالية على الإنفاق في مجال التعليم الخاص، والسياحة الداخلية، وارتياد المقاهي والمسارح ودور السينما، يضاف إلى ذلك الاهتمام بالقراءة والمطالعة، ودعم النشاطات الثقافية.
هذه الدورة المتكاملة تعمل في النهاية على دعم الاقتصاد المحلّي واصطباغ المجتمع بحركة إنسانية راقية وجميلة، تحافظ على وهج ونبض الحياة اليوميّة، كما تعمل أيضاً على التوازن بين طبقة الأثرياء وأصحاب السلطة من جهة، وطبقة العمّال ومحدودي الدخل من جهة أخرى. لذلك تُعتبر الطبقة الوسطى صمام ورمز الأمان الاجتماعي.

تكافؤ الفرص

من شروط استمرار وازدهار الطبقة الوسطى، وجود قوانين فاعلة تضمن تكافؤ الفرص، وتوزيع الثروات بشكل عادل، وكذلك ضرورة توفر بيئة اجتماعية تُكافح الفساد والمحسوبية. كما تبرز الحاجة أيضاً لوجود نظام ضريبي عادل، ينظر بعين الخبير في إقرار القوانين الضريبية والاقتطاعات من الأجور.
لهذا نقول إن دور الطبقة الوسطى في الحياة السياسية هو دور حيوي وأساسي، وتاريخياً فقد كان لهذه الطبقة دور فاعل ومؤثر في قيادة المجتمعات نحو التغيير وإرساء الديمقراطية وتحقيق العدل الاجتماعي، ولنا خير مثال في الثورة الفرنسية (التي تبنّتها في الأساس الطبقة الوسطى) وما تلاها من ثورات حقوقية غيّرت وجه العالم الغربي. كما لعبت هذه الطبقة دوراً أساسياً في تعافي الدول الأوروبية من آثار الحرب العالمية الثانية.
كما يصح القول، إن أفراد الطبقة الوسطى غالباً ما يقومون بدعم حركات التغيير والإصلاح السياسي أينما وكيفما تطلّب ذلك، لما يتمتعون به من حس سياسي وثقافة عالية، وإيمان مُطلق بالمبادئ الاجتماعية.

وعند النظر في واقع مجتمعاتنا العربية في العقد الماضي، نجد العديد من المنعطفات التاريخيّة وما رافقها من متغيرّات سياسية واقتصادية (ترافقت بدورها مع تغيّرات اجتماعية)، أدّت في النهاية إلى نشوء ظاهرة انكماش أو تآكل الطبقة الوسطى.
قد يقول البعض إنها نتيجة طبيعية لتطوّر المجتمعات، ولكني أقول إنها نتيجة مباشرة لخسارة صراع التغيير، واستسلامنا لواقع الحال ثم قبولنا مُرغمين بما رسمته دوائر صنع القرار من تكريس لشكل الدولة السلطوية، القائمة على الفساد والمصالح الخاصة، والتي تقوم على استئثار فئة معينة بخيرات البلاد، وانفرادها بمفاتيح اللعبة.

سوء الأوضاع السياسيّة والاقتصادية، وعدم تكافؤ الفرص، دفع أغلبية أفراد الطبقة الوسطى إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة لضمان استمرارهم في نفس المستوى المعيشي، وهذا تطلّب الابتعاد عن الشأن العام، أو بمعنى آخر التقوقع على الذات والتخلّي عن روح المشاركة الايجابية والتفاعل، فيما بحث بعضهم عن فرصة للالتحاق بصفوف طبقة الأثرياء وأصحاب السلطة.
وقد نتج عن هذا إعلاء لقيم التملّك في المجتمع على حساب قيم المشاركة، والأهم من ذلك هروب رؤوس الأموال الى الخارج على حساب دعم السوق المحلي، مع فتح الطريق لدخول الشركات الأجنبية العابرة للقارات إلى السوق الوطني على حساب المستثمر المحلّي.

تغييرات اجتماعية

ما نشهده اليوم من تغيرات اجتماعية، يتمحور في جوهره حول ذوبان الطبقة الوسطى المعتدلة ذات السمات الإيجابية، مع طُغيان الفردية الأنانية وحب التملّك على حساب قيم المجتمع العامة.
ما أود قوله هنا، إن تعريف الطبقة الوسطى، ليس مرتبطاً فقط في معيار الدخل، وإن ذوبان الطبقة الوسطى ليس محدوداً فقط، في تغيّر مستوى الدخول الاقتصادية، وما يتبعه من تغيّر في طبقات المجتمع، ولكنه يعني من وجهة نظري: طمس الهوية الثقافية والمجتمعية لهذه الطبقة، وامّحاء السمات الشخصية لها، ثم تحوّلها تدريجياً، الى طبقة "لا فلزيّة"، سلبية المشاعر، ضعيفة التأثير ومحدودة الفعالية.

إن ما نشهده اليوم من خلو الساحة الثقافية والفكرية، سوى من عدد قليل من المؤثرين الحقيقيين، بعد تحوّل العديد من المثقفين والأكاديميين إلى "أصحاب بزنس"، يُضاف إلى ذلك قلّة الاهتمام بالشأن العام، وما نعانيه من رغبة عالية في التملّك الفردي، واختلال حاد في تقييم البشر بناء على أرصدتهم البنكية، وأثمان مقتنياتهم وليس بناء على مؤهلاتهم أو أخلاقهم وسلوكياتهم، هو نتيجة مباشرة لذوبان الطبقة الوسطى، ولكننا لا ندرك أو لا نريد أن نقر بذلك!

إن ازدياد نسب الجرائم والعنف المجتمعي والانفلات الأمني، مؤشر على خسارة الهوية الاجتماعية وتآكل الطبقة الوسطى ليس بالمفهوم الاقتصادي البحت ولكن بالمفهوم الاجتماعي الإنساني.
فنتيجة لذوبان الهويّة الاجتماعيّة للطبقة الوسطى وانعدام تأثيرها، أصبح المجتمع مقسوماً بين "كبار البلد"، ومواطنين من الدرجة الثالثة!

التصحّر المجتمعي

هاجس ذوبان الطبقة المتوسطة، وما يتبعه من نتائج وخيمة على مجتمعاتنا العربية، هو مادة دسمة يتم تناولها ومناقشتها على مستويات عديدة في العالم، إلا أننا ما زلنا غير مدركين كأفراد، نتائج ذوبان وتآكل هذه الطبقة في مجتمعاتنا.
 وهذا في الحقيقة لا يختلف عن كيفيّة تعاملنا مع الأخطار الأخرى المُحدقة بنا، والتي نسمع ونقرأ عنها الكثير، فمعظمنا على سبيل المثال يقرأ عن مشكلة التغيًر المناخي وذوبان القطب الشمالي أو التلوّث البيئي، وتأثير ذلك على كوكب الأرض، وعلى الصحة ونوعيّة الحياة التي نعيش، ولكننا لا ندرك حقيقةً أو بالتحديد ماهيّة تلك المخاطر، وحتى لو أدركناها فإننا للأسف لا نفعل شيئا يُذكر لمنع حدوثها أو على الأقل تخفيف وطأتها.
ماذا علينا ان نفعل، لإيقاف هذا التصحّر المجتمعي إن جاز التعبير؟
 إن المطلوب هو بكل بساطة، استعادة الإيمان بالقيم الإنسانية والمبادئ التي قامت عليها مجتمعاتنا وآمنت بها،
والاهتمام بجوهر الانسان، وليس بمظهره ومقتنياته.
باختصار علينا أن نستمر في عضويّة "نادي الطبقة الوسطى" بغض النظر عن وضعنا الاقتصادي، وهذه العضويّة تتطلّب منا المحافظة على الهويّة الثقافيّة لمجتمعاتنا، والدفاع عنها واعلائها، مع استمرار النضال في سبيل تحقيق شروط العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، لضمان الأمان الاجتماعي.

المفارقة، أن العالم اليوم مليء بالأجهزة الذكيّة ومترعٌ بالعوالم الافتراضية، ولكنه يحتوي على إنسانيّة أقل! وأخشى إن استمررنا في المضي قدما مع هذا التطوّر دون إدراك للقضايا العامة التي تحيط بنا، والمشاكل الجوهريّة التي تُحدق بنا، أن ينكمش الانسان فينا، فنصبح مجرّد آلة تعمل للكسب، مع فقداننا قيمتنا "الإنسانية"!
لنادي الطبقة الوسطى أدعوكم، فهل من مجيب؟!

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

9-9-2018

الاثنين، 6 أغسطس 2018

القمر الدامي، وبدء موسم القتل!



شهدت منطقتنا العربية الأسبوع الماضي ظاهرةً كونيّة فريدةً تُعرف بخسوف القمر العملاق أو الدامي، حيث تواجد القمر في أقرب مكان له من الأرض، وكان مصطبغاً باللون الأحمر الشفّاف، فبدت السماء لوحة طبيعية أخّاذةً يتوسطها قمرٌ عملاق مشبّع بالحُمرة الشفّافة.
ولكن للأسف، فإن هذا المنظر الجميل على ما يبدو قد حفّز شهوة القتل عند بعض الأنظمة، فاختلط لون القمر "الدامي" بلون الحبر القاني في قوائم الموت في كلٍ من سوريا ومصر، وكأن ظاهرة القمر الدامي قد أعلنت بدء موسم القتل في بلادنا العربيّة، بعد توقف قسري!

فقد أصدرت الحكومة السورية (ما يسمّى دائرة النفوس) قوائم تضم أسماء الوفيّات من المعتقلين في سجون النظام، والذين تم اعتقالهم مع بدء المظاهرات الشعبية السلميّة عام 2011، وقد عزت الحكومة أسباب الوفاة في المجمل، إلى ظروف صحيّة غلب عليها (النوبة القلبيّة)، وتصدّرت منطقة داريّا – غوطة دمشق أعداد القتلى بألف قتيل، تلتها الحسكة 750، وحلب وحمص 500 قتيل لكل منطقة، إضافة الى 500 قتيل من اللاجئين الفلسطينيين من ضمنهم المصور والناشط نيراز سعيد.
وما زال أهالي المفقودين في سوريا، في انتظار صدور قوائم موت جديدة في الأسابيع القادمة، في خطوة يستهدف النظام من خلالها إغلاق ملف المعتقلين وحقوق الانسان الى الأبد، مستفيداً من حسمه للعملية العسكرية على الأرض من جهة، ومن الغطاء السياسي الذي يحظى به حالياً من جهة أخرى، في ظل رغبة المجتمعين الدولي والعربي في إرساء قواعد السلام والأمن على الحدود السورية (بما في ذلك حدوده مع دولة الاحتلال)، وهو ما تم تأكيده أكثر من مرة، كان آخرها تصريحات إسرائيلية رسمية ترحّب بعودة الجيش النظامي السوري "لحراسة" الحدود!

وحسب الشبكة السورية لحقوق الانسان، فإن نحو مائة ألف مدني اعتقلوا أو اختفوا قسراً في سوريا منذ بدء الثورة السورية، يتحمّل النظام السوري مسؤولية 80 ألفاً منهم (يعترف النظام بثلاثين ألفاً)، وقد تمَ توثيق مقتل ثلاثة عشر ألفاً منهم تحت التعذيب في سجون النظام لغاية عام 2016.

المُبكي والمفجع، أن تبليغ الأهالي عن مقتل ذويهم، يتم عبر الهاتف، أو عن طريق نشر قوائم بالأسماء،
وعلى هؤلاء الأهالي المكلومين استلام شهادات وفاة أبنائهم والتوقيع على ذلك، بما يضمن اخلاء النظام من أية مسؤولية، وفوق هذا كله، فإن جثث هؤلاء المتوفّين لا يتم تسليمها أو حتى الدلالة على مكان دفنها، بل يُكتفى بالإخبار عن الوفاة التي حصلت منذ عدّة سنوات، على أن يُفهم ضمناً أنها قد دفنت بمعرفة النظام!

بعض الأسماء الواردة في قوائم الموت الجديدة، كانوا ضمن تسريبات الصور التي نشرها "القيصر" سابقاً والتي وثّقت مقتل ما يزيد عن أحد عشر ألف ضحية في المعتقلات السورية نتيجة التعذيب والجوع وسوء الرعاية الصحية أو بسبب التصفية الجسدية المباشرة.
وهنا لا يسعنا إلا أن نتساءل، ما الذي يمنع المحاكم الدولية والمنظمات الحقوقية، والدول التي تدّعي الدفاع عن حقوق الانسان، من اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لمتابعة ملف المعتقلين وإدانة النظام بجرائم الإبادة وقتل المدنيين؟!

هل تخيّلت يوماً أن يختفي أحد أفراد عائلتك ولا تعلم عنه شيئاً لسنوات عدّة، وعند مراجعتك للدوائر الحكوميّة المختصة، لا تجد سوى الإنكار وادعاء عدم وجود معلومات، وفي لحظة هاربة من الزمن يأتيك اسمه ضمن قوائم المتوفين بنوبة قلبية منذ خمسة أعوام، ثم لا تجد قبراً تبكيه!

غير بعيد عن سوريا، أصدرت المحكمة المصرية قائمة موت طويلة تضم 75 شخصا من المتهمين في أحداث ميدان رابعة العدوية الذي اعتصم فيه أنصار الرئيس مرسي رافضين إجراءات خلعه واعتقاله. وتضم هذه القائمة وزراء سابقين وسياسيين وأكاديميين ورجال دعوة.

المأساة هنا، أن هؤلاء المحكومين بالإعدام، هم ضحايا تلك الأحداث التي قام بها الجيش المصري وقادة الانقلاب، بل إن الوفيات التي حصلت أثناء فض ذلك الاعتصام (وغيره) كانت جلّها من نصيب ذوي المحكومين وأقاربهم وعائلاتهم ومعارفهم وأصدقائهم، حيث تجاوز عدد الوفيات الرسمي 600 وفاة، في حين أن عدد القتلى من أفراد الأمن كان ثمانية أفراد فقط.
وقد استمر الاعتصام لمدة شهر ونصف دون أحداث عنف أو تعدٍّ من المعتصمين على الممتلكات او أفراد الأمن، إلى أن قررت قوات الأمن فض الاعتصام بالقوة واقتحام قوات الجيش للميدان.
في الوقت الذي يجب فيه محاكمة المسؤولين عن فض الاعتصام بالقوة، والذين تسبّبوا بإراقة الدماء، يتم اعتقال واتهام ومحاكمة الضحية من قبل الجلاّد، ذلك الجلاّد الذي سبق وأن أعلن أن هدفه هو إقصاء هؤلاء الخصوم عن المشهد السياسي والاجتماعي.
وهذا لا يدع مجالاً للشك في أن هؤلاء المحكومين قد حُرموا من فرصة الحصول على محاكمة عادلة ومنصفة، في ظل التحريض المستمر ضدهم.
ونحن إذ نقول هذا، لا ندّعي براءتهم المطلقة أو إدانتهم، ولكننا نرى من واجبنا وواجب كل من يحرص على إعلاء شأن المواطن العربي، المطالبة بتحقيق شروط العدالة في محاكمتهم، بعيداً عن الإقصاء السياسي والإملاءات التي يقوم بها النظام الحالي، وبعيداً عن تصفية الحسابات، وهو أمر مشكوك فيه في ظل الظروف الحالية في مصر، التي تتسم بالأحاديّة، وقمع الحريّات العامة.

القتل العلني الفاضح، يتم اليوم بحماية القانون والدستور، ويصطبغ بحجج الدفاع عن الوطن، ومكافحة الإرهاب، وهو بذلك يحظى بتأييد البعض، وبغضّ الطرف من البعض الآخر، إنه موسم القتل الشرعي، والمسكوت عنه في بلادنا!

وأختم بهذا الاقتباس (عصفور، صدمه سائق سيارة فنزل السائق وأخذه لبيته وعالجه حتى شُفي تماماً، ثم وضعه في قفص فلما أفاق العصفور وجد نفسه محبوساً في قفص. العصفور يعتقد أنه ضرب السيارة وقتل السائق وهو الآن في السجن!)

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
4-8-2018


الاثنين، 30 يوليو 2018

مجتمعاتنا العربية عندما تواجه أسوأ كوابيسها!



منذ عام 2013 وبعد نحو عامين على انطلاق شرارة المظاهرات الشعبية في بلادنا العربية -والتي عرفت اصطلاحاً ب "الربيع العربي"-، بدى واضحاً للعيان أن ما كان يبدو حلماً جميلاً، ومشعل نورٍ لاح في نهاية نفق مظلم طويل، قد انقلب رأساً على عقب، وتعرّض لطفرة عجائبية جعلت منه وحشاً كاسراً، ومسخاً يثير الرعب والفزع، ويهدّد بخلخلة بنيان المجتمعات العربيّة وإعادتها الى حقبة ما قبل التاريخ.

بعيداً عن التحليلات السياسية -والتي ناقشناها من قبل-، يجدر بنا إلقاء نظرة عميقة الى دواخل نفوسنا وما يوجد فيها من أفكار ومعتقدات، وأن نعيد النظر فيما نحمله من مبادئ وقيم، نعتز بها ونظن بأنفسنا خيراً من خلالها.

لقد ثبت بالوجه القاطع، أن هذه الثورات والحركات الشبابية، ودعوات المطالبة بتحقيق العدالة والحرية، قد استفزّت وحرّضت كل التيارات المجتمعية، لإظهار كل ما في داخلها، بل كل ما هو مكدّس في عقلها الباطن، من مشاعر دفينة مكبوتة، بحيث طفت على السطح دفعة واحدة، دون وعي منا ولا ترتيب أو تخطيط مسبق.
ولعلنا في تلك اللحظات ولأول مرة في عمرنا، شاهدنا أنفسنا على حقيقتها دون مكياج ولا صورة تجميلية، ودون عناية بانتقاء الكلمات او رسم الابتسامات وتبادل المجاملات، ودون أن نضحك كي (تطلع الصورة حلوة!)

الأهم من كل هذا، أننا –ولأول مرة في عمرنا أيضاً-وقفنا امام المرآة ونظر الواحد فينا إلى داخله فأبصر بوضوح تام، نوازعه ورغباته وأفكاره وكل ما كان يحاول أن يخفيه حتى عن نفسه، فكان بصرنا يومئذ حديد!

لم يحتمل الواحد فينا الاختلاف مع الآخر، لقد كنا على متن سفينة يتلاطمها الموج، والواحد فينا لا يكاد يثق بأحد سوى نفسه لقيادة تلك السفينة الى بر الأمان، كلٌ منا أراد السيطرة على الدفّة والدفع بالآخرين بعيدا عنها، وفي سبيل ذلك لم تكن الوسيلة ذات معنى أو ذات أهمية، فالمهم هو الغاية التي صوّرها كل واحد منا لنفسه، على أنها نبيلة تحمل طابع الإنسانية وخدمة الغير.
وهكذا، كان الحق مع كل واحد فينا، والباطل هو الآخر ولا أحد سواه، فالنظام السياسي القائم هو الوطن، وهو التعويذة اللازمة للأمن والأمان في نظر البعض، فيما سقوط النظام والقضاء على رموزه هو الحل الوحيد للنهوض بالبلد، في نظر البعض الآخر، وفي وسط هذه "الهوجة" وجد فيها المنافقون والطابور الخامس والسادس والسابع فرصة ملائمة لاقتناص الفرصة وتحقيق أهدافهم، سواء بالحصول على مركز في السلطة أو رفعة في المجتمع أو مكاسب اقتصادية ومادية وشهرة إعلامية...الخ القائمة الطويلة.

لقد تغلّب المشاكس الصغير المختفي فينا على ديبلوماسيتنا، وعلى الأنموذج الذي كنا نظن أننا نمثله، وحاول هذا المشاكس المنفلت، بكل ما أؤتي من قوة التغلب على الآخرين وعلى كل النماذج الأخرى بل والقضاء على كل من يختلف معه، وهذا يستدعي بالضرورة النزاع والعداء، ولم لا القتال!
أصبحت الأرض العربية ساحة قتال لتصفية حسابات تاريخية لم نكن نلق لها بالاً من ذي قبل، لقد تخندقنا خلف هوياتنا والتي بدى وكأننا اكتشفناها للتو، فأنا سنّي وذاك شيعي، وهذا مسلم وذاك قبطي، وهذا من صنعاء وذاك من عدن، هذا يساري وذاك إسلامي، وهذا إخونجي وأنا ناصري!

لقد تحركت المياه الراكدة لتظهر أبشع وأوسخ ما فينا، الى درجة القرف من أنفسنا وفقداننا الأمل في القادم، وهذا هو بيت القصيد.
لن أتحدث عن السياسة -ليس في هذا المقال على الأقل-، ولن أقول إن هذا مخطط ومقصود وإن خطة الإنقاذ التي وضعتها، الأنظمة السلطوية لاستعادة زمام الأمور قد تم تمريرها ونجحت بالفعل، ولكني سأعود وأتكلم عن المجتمع ودور الفرد.

يعتمد "فرويد" في نظريته الأساسية للتحليل النفسي، على أن العلاج النفسي، يتم من إخلال إحداث صدمة نفسيّة عميقة تهز كيان المريض صاحب العلاج، وتحدثُ هذه الصدمة عندما يتواجه وعي هذا الشخص مع لا وعيه، بمعنى عندما يواجه كل واحد فينا كابوس الخوف الذي يهرب منه، عندما يتواجه مع نفسه ويقرّ بأخطائه ويتعلّم منها، عندما نكشف الغطاء عن عقلنا الباطن ونرى ما في ظلمات ذلك الصندوق العميق، فنخرجه الى النور ونتعامل معه.

في روايته الأخيرة (حرب الكلب الثانية) يطرح الأديب إبراهيم نصر الله، فكرة استشرافيّة عن حروب العالم العربي المستقبلية، وأخطرها فتكاً، تلك التي تشتعل بين الأشباه لا الفرقاء!
وأقتبس هنا النص التالي: (أتعرفين ما الذي يثير دهشتي؟ ما يثيرها حقاً، هو أن الانسان يمكن أن يتقبّل وجود شبيه لغيره، لكنه لا يتقبل وجود شبيه له، فالذين يقتلون بعضهم بعضاً منذ الظهيرة السوداء هذا اليوم، هم الأشباه لا المختلفون.... لأن البشر لا يريدون المختلف ولا يريدون الشبيه، وعلى أحدهم أن يقول لنا بوضوح، ما الذي يريده الانسان!) 
وكأن الكاتب يقول، إن الأصعب من قبول الآخر الذي يخالفك، هو قبول الآخر الذي يتشبّه بك، فيصبح شبيهك حقيقة وواقعاً، ليس بالتفكير وروح الشخصية فقط بل وبالملامح أيضاً!

أعتقد أننا اليوم، كمواطنين في بلاد أقل ما يقال فيها أنها تفتقد لاحترام الفرد لذاته، بل هي مجتمعات تحترم السلطة والجاه والنسب والحسب، وتراعي النفوذ ورجال المال والأعمال، على حساب القيم والقانون والدستور، أقول إذا كنّا ما زلنا نؤمن بكل ما عبّرنا عنه في شوارع بلادنا، وإذا كنا ما زلنا نؤمن بضرورة تحرَرنا من قيودنا، وألا نرضى بأنصاف الحلول مجدداً، فنحن أمام فرصة تاريخية لمواجهة كل مخاوفنا ومجابهة أسوأ الكوابيس التي لم نكن نجرؤ الحديث عنها، وتجاوزها نحو إعادة الحلم من جديد.
لقد جرّبنا وأخطأنا وفشلنا، نعم فشلنا جميعنا، ولكننا خسرنا معركة ولم نخسر الحرب، نحن اليوم أقوى من ذي قبل، بتنا نعلم أن اختلافاتنا قوة وليست ضعفاً، وأن السفينة لن تعبر الموج بفعل ربّان سفينة منفرد، بل بفعلنا جميعاً.
لقد اجتزنا أصعب اختبار وأكثره ظلمة، ولم نعد نخاف من "الغول"، لأننا رأيناه بأم عيننا، رأيناه في مرايانا وشاركناه ليلنا الطويل!

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
29-7-2018


الاثنين، 23 يوليو 2018

فلسطين وطنٌ قوميٌ لليهود!



أقرّ الكنيست الصهيوني، مشروع قرار "قانون القوميّة" الذي يؤكد قوميّة دولة الاحتلال، واعتبار فلسطين المحتلة وطناً قومياً لليهود، عاصمته القدس الكبرى، وهو ما يعني التنفيذ الحرفي للمشروع الصهيوني الذي أطلقه ثيودور هيرتزل، والتنفيذ الحرفي أيضاً لوعد بلفور، فماذا يتضمن هذا القرار؟

أولاً، يُعتبر هذا القرار استكمالاً لقرار ترامب اعتبار القدس عاصمة إسرائيل، وهنا بالذات وفي قانون القوميّة الجديد، يتم الإشارة الى القدس "الموحّدة" عاصمة لإسرائيل، مما يعني إغلاق الباب تماماً على أي حديث حول مفاوضات حل الدولتين، أو التفاوض حول القدس الشرقية.

أما جوهر القرار، فهو اعتبار فلسطين المحتلة، وطناً لكل يهود العالم وأن من حق أي شخص يعتنق الديانة اليهودية، الحصول على حقوق المواطنة الكاملة والانتماء لهذا الوطن، مع تكريس الرمزية اليهودية الصهيونية التوراتية للبلد.
ففي الوقت الذي خفت الحديث فيه عن حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة وتقرير المصير، نجد أن القانون الجديد يكرّس حق توطين اليهود ولمّ شملهم من كافة أقطار العالم في وطن قومي واحد (تكون الدولة مفتوحة أمام قدوم اليهود ولمّ الشتات) وهذا هو التنفيذ الحرفي لما يعتقدون أنه وعد إلهي بمنح هذه الأرض المقدسة (أرض الرب) لنبيّه إبراهيم ثم لابنه اسحق وإلى ابنه يعقوب (إسرائيل) من بعده.

يضاف الى ذلك تضمين القانون أحد البنود الذي ينص على أن ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل يكون حصريا للشعب اليهودي، وبهذا تصبح هذه الدولة، دولة عنصرية تقوم في الأساس على الفصل العنصري، وعلى استئثار فئة واحدة في تقرير مصير باقي الفئات، بل وتكون لغتها (اللغة العبريّة) هي اللغة الرسميّة للبلاد، مع شطب الاعتراف باللغة العربية!

جميع ما ذُكر، له معنى واحد، مشروع جديد لتهجير الفلسطينيين، وطمس هويتهم الوطنيّة، ضمن دولة تُشرعن وتقنّن الفصل العنصري وتمارسه باسم القانون وباسم السلطة!

وضمن تشريع الفانون المذكور يحق للحكومة إقامة بلدات دينية خاصة بالمجموعات اليهودية وأبناء القومية اليهودية، دون تحديد المكان أو الزمان، بحيث يصبح اقتلاع الفلسطينيين (مسلمين ومسيحيين) من أرضهم إجراءً قانونياً بحكم هذا التشريع.
كما يشجع القانون على الاستيطان وتطويره، باعتباره "قيمة قوميّة"، وهذه النقطة بالذات تُعدّ المسمار الأخير في نعش مفاوضات حل الدولتين، حيث أصبح الكيان السرطاني المنتشر داخل الضفة الغربية، كيانا قانونيا بل وقيمة قومية عليا تسعى الدولة الى تطويره، وهو ما يعتبر عائقاً أساسياً في وجه تشكيل أي دولة للفلسطينيين مهما كانت حدودها، حيث يتعذر حصولهم على مساحة خالية من المستوطنات.

من المفارقات الغريبة في هذا التشريع، هو الجمع بين "الشعب" الذي يمثل عدة قوميّات منصهرة في بوتقة شعب واحد، ثم حصر هذا الشعب بديانة واحدة، وهذا ما ينافي كل الأعراف الإنسانية والتاريخية بل والعلميّة.
فعندما نقول الشعب الأمريكي، يُفهم من هذا المصطلح جميع المواطنين الأمريكيين الذين تتنوّع أصولهم وعروقهم وديانتهم، لتشكل باقة من ألوان الطيف التي نتفق جميعاً على انها تمثل شعباً واحداً يجمعه قانون مدني يتضمن نصاً، حقوق المواطنة، وواجبات المواطن الدستورية، ولكن لم يسبق في أي دستور أو حضارة سابقة ولا حاضرة، أن أطلق لفظ شعب على اتباع ديانة!
فإذا قلنا الشعب المسلم، على سبيل المثال، فإن هذا المصطلح يصبح غامضاً ولا يدل على شيء بعينه، فكيف يمكن القبول بإن تجمع الديانة اليهودية أبناءها في شعب واحد!
هل علينا أن نؤمن بأن الدم اليهودي الذي يجري في أبناء تلك الطائفة يعمل على صبغهم بصيغة وراثية واحدة تجمع بينهم بنص ديني!

المفارقة الأخرى، أنه ذكر (أرض إسرائيل) دون الإشارة الى حدود تلك الدولة أو الى أي تعريف يحدّد تلك الأرض، وهذا يُعيدنا الى خرافات توراتية تتحدث عن الأرض الموعودة والتي تصل حدودها للنيل والفرات (الخطاّن الأزرقان اللذان يحدّان العلم الإسرائيلي).

لم يكن ليرى هذا التشريع النور لولا الدعم السافر الذي تتلقاه دولة الاحتلال من البيت الأبيض ومن ترامب وعائلته مباشرة، ولولا النزعة الفاشيّة الطاغية في العالم هذه الأعوام، والتي تتهيأ للانقضاض على الحركات التحررية والداعمة لحقوق الانسان.

إن العالم اليوم أصبح أقرب ما يكون إلى كيانات فردية مستقلة على شكل دول، لا هدف لها سوى التملك الفردي وزيادة النفوذ والسيطرة، على حساب كل القيم الإنسانية والحضارية، بل وعلى حساب حقوق المواطنين الذين ينتمون لتلك الدول.

لقد كثرت الدعوات القوميّة التي ينكر أصحابها على غيرهم، حق المشاركة والمواطنة والعيش المشترك، ويعتقدون أن من حقهم وحقهم فقط، العيش بسلام وأمن والتنعّم بخيرات البلد، رأينا هذا في فرنسا وألمانيا وأوروبا الشرقيّة، وفي بلادنا العربية أيضاً.

لقد اتخذ المرشحون للانتخابات الرئاسية في جميع بلدان العالم هذا الشعار، وعلى رأسهم ترامب نفسه، فما الفرق بين "أمريكا أولاً" وبين "فرنسا للفرنسيين" وبين التشريع اليهودي الحالي!

بل إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وحالة التململ التي نراها في بعض البلدان ما هي إلا مؤشرات واضحة على تقوقع العالم على نفسه، وذوبان كل التحالفات الإقليمية وانكفائها على نفسها، وهذا مؤشرً خطير، يؤسس لمرحلة قادمة لا تقل خطورة عن تلك المرحلة التي طالعناها على صفحات التاريخ والتي أسّست للحروب العالمية في القرن الماضي.
  
قادة إسرائيل يعرفون من أين تؤكل الكتف، متى يتحركون ويحتلّون المشهد ومتى ينحنون بانتظار مرور العاصفة، ولم يكن إقرارهم هذا القانون في هذا التوقيت بالذات مصادفة أو ناتجاً عن سوء توقيت، بل على العكس تماماً، إنهم يعلمون جيدا أن هذا هو الوقت المثالي لتمرير صفقتهم ومشروعهم التاريخي وأن كل الظروف المحيطة إقليميا وعربيا ودولياً، هي ظروف مواتية ومناسبة، بل وداعمة لمشروعهم!

دولةٌ تقوم على خُرافات تؤمن بها طائفة متطرفة أصولية، تدعمها طوائف ولوبيات متطرفة أخرى تتحكم في العالم، ويكون الناتج دولة مدنية تقوم على الفصل العنصري وتتلوّن بالصبغة الدينية، وتتبجّح بالديمقراطية وحقوق الانسان!

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

22-7-2018

الثلاثاء، 17 يوليو 2018

الأرض مُسطّحة وليست كروية!






تزايدت النظريات التي تدحض كروية الأرض منذ عام 2010، وازدادت انتشاراً هذا العام بالذات، بعد نشر العديد من الحقائق والأدلة التي تشير إلى أن شكل الأرض أقرب ما يكون الى قرص دائري تنتشر على سطحه القارات الخمس المعروفة محاطة بالمياه، فيما تُغلّف محيط هذا القرص صحراء جليدية مُظلمة تمتد إلى ما لا نهاية، بشكل يستعصي على البشرية اكتشافها أو سبر أغوارها، وهي المنطقة التي تعرف بقارة أنتاركتيكا (القطب الجنوبي).  وهذا بدوره يتماشى مع نظرية العوالم الأخرى أو الأكوان المتوازية، ولكن ضمن بُعد الأرض الأفقي، وليس الفضائي.


المثير أن الدراسات والأبحاث التي تدحض كروية الأرض (التي نادى بها غاليليو فبل نحو 500 عام، وأكّدتها “ناسا” بعد الصعود الى القمر) جاءت من مختلف بلدان العالم، فهناك فريق أبحاث برازيلي قام بعدة تجارب لإثبات عدم وجود انحناء في سطح الأرض، وأن انعدام الرؤية في الأفق ناتج عن محدودية الرؤيا وليس لانحناء الأفق.
كما أسس عدد من العلماء الغربيين في لندن، مؤسسة (الأرض المُسطّحة) وأنشأوا مجتمعاً افتراضياً على الشبكة العنكبوتية، يعرضون فيه كل المواد المتعلقة بالموضوع
وقد تملكتني الدهشة من كمّ المعلومات والأبحاث التي يعرضونها، وقدرتهم على إجابة العديد من الأسئلة المحيّرة، سواءً عن رحلة ماجلاّن، واكتشافات جيمس كوك، وقفزة فيليبس، بالإضافة إلى الاستشهاد بخطوط الطيران التي تتعارض مع كروية الأرض، والكشف عن استخدام تقنية "عين السمكة" في الكاميرات الحديثة لإظهار انحناء الأفق (الوهمي).

كما قام عدة ناشطين بالتنقيب وراء رحلة "أبولو" الشهيرة، وتفنيد الفيديو الذي نشرته “ناسا” للهبوط على القمر عام 1969، وعلى الرغم من أن هذا ليس بجديد، إلا أن نفي وصول “ناسا” إلى القمر، يخلق إشكالاً حول حقيقة الصور التي نشرتها (وما تزال) للكرة الأرضية، وهنا بالذات يُقدّم هؤلاء الناشطون العديد من الشواهد والاثباتات على خضوع هذه الصور للتعديل عبر تطبيقات الحاسوب، وتعارضها مع بعضها البعض، عدا عن إثارة الشك في إمكانية أخذ صور "حقيقية" للأرض من خارج الغلاف الجوي.

وهناك مجموعة من العلماء الأمريكان الذين يتساءلون عن سبب حظر زيارة قارة أنتاركتيكا أو حتى الطيران من فوقها، ويتحدثون عن مؤامرة تشترك فيها الدول العظمى، والتي ما زالت تبحث في أسرار هذه المنطقة المجهولة.

يترتب على نظرية (الأرض المُسطّحة)، أن تكون هذه الأرض ثابتة ولا تتحرك، وبالتالي فإن الشمس والقمر هما اللذان يدوران فوق قرص الأرض، في مدار يتولد عنه الليل والنهار، واختلاف فصول السنة، حيث يقول مؤيدو هذه النظرية إن الشمس أصغر من الأرض والدليل أننا نراها بالعين المجرّدة، ونرى مسارات أشعتها تتكسّر من خلال طبقات الجو، وهذا لا يمكن ان يحصل لو كانت بعيدة في الفضاء، حيث يقدّرون المسافة بين الأرض والشمس بخمسة آلآف كم فقط، كما يشيرون إلى أن القمر مضيءٌ بنفسه ولا يعكس ضوء الشمس، كما أنه لا علاقة له بالمد والجزر!

ويتساءل مؤيدو هذه النظرية، هل سبق لأي انسان عادي التثبت أو التحقق من انحناء الأرض؟ حتى أن المسافر لو نظر من شباك الطائرة على ارتفاع شاهق لن يرى انحناء الأرض.
هل سبق لأحد أن دار حول الأرض شرقاً أو غرباً وعبَرَ المحيطات ثم عاد الى مكانه؟
هل سبق لأحد اكتشاف الوجه الآخر للأرض، أو عبور منطقة القطب الجنوبي المُتجمّد؟

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل اشترك فيه علماء الدين، فقد صدرت مؤلفات حديثة تؤكد نظرية (الأرض المُسطّحة) وتستدل عليها من القرآن، كما انتشرت العديد من الفيديوهات والمحاضرات لدعاة معاصرين يؤكدون أن الأرض مستوية ولها سقف ثابت، وأنه ثابتة بالضرورة، في حين أن الشمس والقمر قد تم تسخيرهما للدوران حول الأرض.


بالطبع، أنا لا أستهدف إثبات أو دحض النظرية، من خلال هذا المقال، ولكني أرغب في جذب انتباه القرّاء والمتابعين الأعزاء إلى هذا الموضوع وإثراء النقاش فيه، بالإضافة إلى استحضار بعض الدروس والعبر من انتشار هذه النظرية التي تُخالف كل مفاهيمنا وكل ما درسناه وتعلّمناه.

بدايةً، لا يوجد ثوابت علمية مؤكدة مهما اعتقدنا خلاف ذلك، وكل ما نصل إليه من العلم هو علم نسبي، قد تتقدم معارفنا يوماً ما ويثبُت لنا عكسه، أو عدم صحته ولو جزئياً. (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)

لذا، لا يجوز لأي شخص التقليل من علم أو ذكاء الآخر بسبب قناعته التي قد تبدو غريبة، وقد علّمتنا كتب الفلسفة والتحليل النفسي، أن أذكى الأسئلة هو ذلك النوع الذي يصطبغ بالغباء! (وقل رب زدني علما).
ومن هنا نقول، إن الرد على أي وجهة نظر، يكون بالحُجّة والمنطق والبرهان وإن الاستخفاف بآراء الآخرين هو نوع من الضعف وعدم امتلاك القدرة على الدفاع عن الثوابت والمُسلّمات التي نؤمن بها.

النقطة الثانية، هي إقحام الدين والقرآن في نقاشات علمية جدلية، تضر أكثر مما تفيد، على عكس ما يعتقد العلماء الذين يحاولون تسخير الدين لخدمة هذه النظرية أو تلك.
لقد انقسم العلماء المسلمون بين مؤيد لكروية الأرض وبين معارض لها، وكل فريق لديه من الأدلة والشواهد، ويا ليتهم يشيرون الى أن ما يقولونه هو اجتهاد قد تثبت صحته وقد لا تثبت، بل على العكس تماماً تراهم يؤكدون أفكارهم وكأنهم أنبياء هذا الزمان، والمؤسف أنهم لم يقدّموا دليلاً علمياً إلاّ وكان منقولاً عن علماء غير مسلمين، فيما اعتمدوا على النص أكثر مما اعتمدوا على الدليل العلمي المادي.



في النهاية، يؤخذ على نظرية (الأرض المُسطّحة) عدة أمور، أولها أنها تعتمد على نظرية المؤامرة، والتي تعتمد في الأساس على إثارة الشك أكثر مما تعتمد على إثبات وجهة نظرها.
ثانياً، انحناءُ الأرض، يُثبته صعود الشمس خلال النهار إلى كبد السماء ثم هبوطها، ولو كانت الأرض مسطحة لحافظت الشمس على ارتفاعها. في حين أن نظريتهم تفيد أن حركة الشمس فوق الأرض تتضمن الصعود والهبوط، وهذا تخمين وافتراض، لا يقوم عليه أي دليل.

أضف الى ذلك أن جميع بلدان العالم اليوم بما فيهم دولنا العربية قد أطلقوا أقماراً صناعية خاصة بالبث الفضائي، وقد تم تصميمها بناءّ على كرويّة الأرض ودورانها حول نفسها، ولو أن الأرض ثابتة لتاهت هذه الأقمار وانقطع البث، ولكان القائمون على هذه الأقمار قد اكتشفوا بما لا يدع مجالاً للشك أن الأرض ثابتة ولا تتحرك، فهل يُعقل أن تشترك دول العالم من الشرق والغرب في مؤامرة (كروية الأرض)!

هذه الأسئلة وغيرها بعثتُ بها الى القائمين على النظرية والنشطاء الذين شاركوا بنشرها، بانتظار وصول الرد المُقنع من عدمه، ولعلنا نعود للحديث في هذا الموضوع لاحقاً.

 ختاماً،  أعتقد أننا أمام قضية معقدة ليس من السهل الوصول إلى قناعة مؤكدة فيها على نحو سريع، ولكني أجزم أن نظرتنا للكون وللحقائق الكونية لن تعود كما كانت من قبل، حتى على فرض أن هذه النظرية ستفشل في إثبات نفسها، إلا أنها على أقل تقدير ستنجح في تعديل بعض المفاهيم وتصحيح بعضها الآخر مع كشف بعض الزيف هنا وهناك، وإثبات عدم صحة بعض المسلّمات التي نؤمن بها، ولم لا، السير باتجاه نظرية جديدة حول طبيعة الكون وشكل الأرض، قد تكون هي الأصح، ولنا في رحلة سيدنا إبراهيم للبحث عن الحقيقة، والتي قادته من الشك إلى اليقين، أكبر مثال يُحتذى.


 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

16-7-2018