تستمر
فعاليات "مسيرة العودة الكبرى" للأسبوع الثاني على التوالي، بمشاركة
واسعة من كافة أطياف الشعب الفلسطيني، الذين اتّحدوا جميعاً، في سبيل إعلان استمرار
تمسّكهم بحقهم في العودة الى أراضيهم التي سلبت منهم قسراً، رغم كل ارهاصات
"صفقة القرن" المشبوهة، وتردّي الأوضاع السياسية في المنطقة والأراضي
المحتلّة على حد سواء.
النشطاء
القائمون على مسيرة العودة الكبرى كانوا قد قرّروا استمرار فعاليات المسيرة لغاية
ذكرى النكبة (15-أيار)، بعد انطلاق فعالياتها بالتزامن مع ذكرى يوم الأرض (30
آذار)، وهم مستمرون بهمّة عالية ومشاركة شعبية واسعة، رغم كل محاولات الترهيب التي
يقوم بها العدو الصهيوني، ورغم افتقادهم إلى دعم رسمي وعلني من السلطة الفلسطينية وحكومات
دول الجوار.
المهم
اليوم، هو أن الفلسطينيين قد حطّموا جدار الصمت ورفضوا القبول بالأمر الواقع، لقد
أعلن الفلسطينيون أن هاجس العودة الى وطنهم الأصلي هو شغلهم الشاغل، وأنهم ما
زالوا يحتفظون بحقوقهم التاريخية، وذكرياتهم ورائحة أرضهم، وأن أحداً لن يسلبهم
هذا الحق.
لدي
حلم، قال مارتن لوثر كينغ ذات يوم، (أنه في يوم ما سيعيش
أطفالي في مجتمع لا يُحكم فيه على الفرد من لون بشرته)؛ اغتيل مارتن لوثر كينغ على
يد مُتعصّب أبيض، ولكن أحداً لم يستطع أن يغتال حلمه، في الحقيقة لقد انتصرت
أحلامه في النهاية، ولقد عاش أبناؤه في ظل أمّة تؤمن بالتعددية، كما أراد، ليس هذا
فحسب، بل إن هذه الأمة ستختار بكامل إرادتها الحرّة، رئيساً لها من أبناء البشرة
الملوّنة، وما كان ذلك ليحصل لولا إيمان مارتن لوثر كينغ وحركة مناهضة العنصرية بقدرتهم
على تحقيق أهدافهم وصناعة التاريخ، ولولا تشبّثهم بحقوقهم.
عندما ناضل عمر المختار ورفاقه بما توفّر لديهم من
إمكانيات بسيطة، ووقفوا في وجه دولة عظمى تحكمها الفاشيّة، وترتعد من لفظ اسم
قائدها "موسوليني" فرائص جنرالات العالم، لم يكن أحدٌ يظن أنهم يملكون
أي فرصة حقيقية في الانتصار، بل إن بعض المتخاذلين وصفوهم بمجموعة من المتهورين
الذين يدفعون بأبناء الشعب الليبي الى الموت "المجاني"، تماماً كما حصل
مع عبد القادر الجزائري في نضاله ضد الاستعمار الفرنسي، وكما يحصل اليوم مع حركات
المقاومة الفلسطينيّة.
أُعدم عمر المختار، ومات عبد القادر في منفاه، ولحق بهما
العديد من رفقاء السلاح ومن الضحايا المدنيين كذلك، ولكن الفكرة لم تمت، ومطالب
التحرّر لم تخفت، وفي النهاية انتصرت الفكرة، انتصر الحلم، وهزمت الضحيةُ جلاّدها.
لن
أنسى ما حييت، كيف زحف مواطنو ألمانيا الشرقية نحو الجدار الفاصل بين برلين
الشرقيّة والضفة الغربية من برلين، وتمكّنوا بما يشبه المعجزة، من اجتياز هذا
الجدار بل وهدم أجزاء كبيرة منه (قبل أن يتم هدمه بشكل كامل بعد ذلك) ليعلنوا سقوط
المعسكر الشرقي في أوروبا، والذي أدّى في النهاية إلى تفكك الاتحاد السوفياتي
وسقوط الشيوعية الاشتراكية.
قبل
أن يتمكن هؤلاء الألمان من إسقاط جدار برلين، كان عليهم أن يهدموا جدار الخوف في
نفوسهم، وأن يهزموا الخوف من الطغاة في داخلهم، كان عليهم التغلّب على عجزهم عن الوقوف
في وجه الظلم والتمييز والفساد.
لقد
انتقل اليوم الخوف من قلب الضحية الى قلب الجلاّد، تشنّ إسرائيل اليوم حرباً إعلاميّة
مسعورة ضد مسيرة العودة، وقد استشهد الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال بعدّة فتاوى
سابقة من علماء دين مسلمين تُحرّم الخروج في المظاهرات وتعريض الأنفس للتهلكة، يا
لسخرية القدر!
تعيش
دولة الاحتلال في كابوس ليس بسبب جيوشٍ تُرابط على حدودها، ولكن بسبب تهاوي فكرة
الدولة الصهيونية نفسها، فالفلسطينيون ما زالوا يرفضون أن ينهزموا، يموتون ولكنهم
لا ييأسون، يخسرون المعركة تلو الأخرى ولكنهم لا ينهزمون، يسقطون ولكنهم يعاودون
النهوض، تخذلهم قياداتهم، تتآمر عليهم قوى الغرب، تتآكل بلدان جيرانهم من حولهم،
يرون الدمار والقصف والتقتيل وقد حلّ في دول الشرق الأوسط ولكنهم يرفضون أن
يتنازلوا عن وطنهم!
لقد
مات الجد، وهاجر الأب، ووُلد الابن خارج الوطن، وما زال الفلسطيني يحلم بالعودة!،
ألا يقضّ هذا، مضاجع أعتى دول العالم!
الطفل
محمد عيّاش، ابن غزة، التي اجتاحت صورته شبكات التواصل، بعد أن ابتكر كمّامةً
للوقاية من قنابل الغاز أثناء مشاركته في مسيرة العودة، هذا الطفل وأمثاله، قادرون
على قذف الرعب في صدر جيش الاحتلال، أكثر بمئة مرة من قادةٍ فلسطينيين وسياسيين عرب
لا يبتكرون سوى فقّاعات إعلاميّة، وكلامٍ أجوف عن المحافل الدولية وتطبيق قرارات الأمم
المتحدة.
أبناء
هذا الشعب، ممّن يخرجون في هذه المسيرات ويتحدّون جنود الاحتلال، يقاومون الرصاص
بجسدهم العاري، ويصرخون بأعلى صوتهم (فلسطين حرّة)، هم من سيهزمون دولة الاحتلال، وقَبْلها
سيهزمون جدار صمت الضحايا، وسيؤرشفون في التاريخ سجلاً للخذلان، لكل من تقاعس عن نُصرتهم.
لقد
كسر الفلسطينيون اليوم حاجز الصمت والقبول بالأمر الواقع، لقد رفضوا الرضوخ
لإملاءات التنازل عن الحقوق التاريخية في فلسطين، والقبول بأنصاف الحلول. لقد
رفضوا منطق التنازلات والحلول المرحليّة، وأعادوا القضية الى المربع الأول،
فلسطين، كلّ فلسطين، بِقُراها ومُدنها وبلداتها، هي حق لأبناء فلسطين، مهما طال
الزمان ومهما طال أمد الغدر والمؤامرات.
هل
تفهمون الآن سبب هذا السُعار الذي أصاب جيش الاحتلال وجعله يفتك بهؤلاء الفتية
المدنيين رغم أنهم لم يرموا حجراً؟ إن دولة الاحتلال في هذه اللحظة تُعاني من دويّ
(اختراق حاجز الصمت)!
للفلسطينيين
حُلْم، لن تسرقه منهم كل قوى العالم، ولن يحرمهم من تحقيقه، زعامات الخذلان
والعار. وأنا كغيري من أبناء هذا الشعب، الذين وُلدوا خارج حدود الوطن، أنقل
لأبنائي قصص جدّهم عن قريتنا، مسقط رأس آبائي وأجدادي، عن مخيمات اللجوء، ومدارس
الوكالة، عن النكبة والنكسة، وحرب بيروت، وصبرا وشاتيلا، وانتفاضة الحجارة، أعلّمهم
أدب غسّان كنفاني، وشعر محمود درويش، وأقول لهم: لدي حُلْم، أن أراكم تعيشون في
القدس المحرّرة، وتنعمون بالسلام في وطن السلام، فإياكم أن تخذلوا الحلم، وإن جار
الجائرون.
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
6-4-2018