الاثنين، 11 ديسمبر 2017

القدس عاصمة إسرائيل؛ من يجرؤ ؟!





فعلها ترامب كما كان متوقعاً، بإعلان القدس عاصمةً لدولة الاحتلال الصهيوني التي وصفها ب "أعظم الديمقراطيات". بعد مئة عام من وعد بلفور أتى "فعل ترامب" بتجيير المدينة المقدّسة بتاريخها العريق ورمزيتها للسلام بين الأديان، وبما تمتلكه من مقدسات إسلامية ومسيحية للسيادة اليهودية الصهيونية!

لنقولها بصراحة، لم تكن الولايات المتحدة يوماً داعمةً للسلام في المنطقة، ولا لترسيخ الديمقراطية ونشر مبادئ الحرية، بل كانت دوماً دولة استعمارية تسعى للهيمنة والسيطرة، ودعم نفوذها في العالم. ومنذ الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، وقفت الإدارة الأمريكية موقف الداعم والحليف الرئيس لدولة الإحتلال على حساب العرب والفلسطينيين.

في المقابل، استغل المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي القضية الفلسطينية لضرب مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ومحاولة خلخلة التحالفات الأمريكية.
بقي الوضع بين شدّ وجذب إلى أن سقط جدار برلين وسقطت معه الشيوعية فانهار المعسكر الشرقي، وأصبحت أمريكا سيدة العالم بلا منازع، وهو ما تنبأ به "فوكوياما" في كتابه (نهاية التاريخ)، حين قال إن انتصار أمريكا وترسيخ مبادئ الديمقراطية الليبرالية وحرية الأفراد بما فيها من تحرير الأسواق ورفع القيود عن التجارة وإلغاء الدعم الحكومي، والانتقال من تأميم أملاك الدولة إلى الخصخصة، لن يكون بمثابة بداية حقبة جديدة، بل هو نهايةٌ للتاريخ نفسه، إذ لا يوجد أية أيدولوجية بإمكانها تحقيق ما هو أفضل للبشرية!

وجد العرب أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهم، الدوران في فلك أمريكا، أو المواجهة المنفردة دون غطاء دولي أو حتى عربي، ولكن ثمّة من بقي متردداً يحاول أن يلعب على الحبلين، يقاوم في العلن، ويخضع في السر!
وبعد حرب الخليج الثانية، التي تلت انهيار جدار برلين مباشرة، تبيّن لكل من كان يحدوه الأمل ب "حلحلة" الأمور أو الخروج من عنق الزجاجة، أن العالم بات يحكمه قرنٌ واحد، وأن لا مناص من الخضوع، لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمراً!
في النهاية تخلّى حلفاء الاتحاد السوفياتي في المنطقة عنه أو تخلّى هو عنهم، ومنهم من غيّر البوصلة وتحالف مع أمريكا نفسها!

وبعد ان استتب الأمر لها، قررت الإدارة الأمريكية حل صراع الشرق الأوسط بما يضمن مصالحها واستمرار دولة إسرائيل، مع ضمان وقف عمليات المقاومة وإحلال التطبيع الاقتصادي، بما يضمن استمرار شريان الحياة في الأسواق لخدمة الاقتصاد الأمريكي.
اندفعت الدول العربية وراء عملية السلام، ولسان حالهم يقول ما الذي سنخسره؟! أعلنت دول الصراع مع العدو الإسرائيلي تباعاً رغبتها في السلام والاعتراف بدولة إسرائيل مقابل العودة إلى حدود 1967؛ وانطلق مؤتمر مدريد ومفاوضات السلام.
في الوقت الذي كان فيه الوفد الفلسطيني يخوض مفاوضات ماراثونية في محاولة لتحقيق السلام العادل ضمن إطار حل الدولتين، فتح أبو عمار الباب الخلفي لمفاوضات أوسلو التي استأثرت فيها "فتح" دون باقي الفصائل، ودون مشاركة قوى فلسطينية من الداخل (على عكس وفد مفاوضات السلام الرسمي) فكانت النتيجة "اتفاقية أوسلو" التي نجحت في سحب اعتراف رسمي من منظمة التحرير بدولة إسرائيل ونبذها للمقاومة مع توقيع اتفاقيات أمنية تضمن سيادة إسرائيل والتعاون الكامل لأجهزة الأمن الفلسطيني من أجل حماية دولة الاحتلال، يضاف الى ذلك، تأجيل البحث في قضية القدس واللاجئين وحق العودة وترسيم الحدود، رغم أن هذه القضايا كانت من ضمن الثوابت الأساسية التي رفض الفلسطينيون توقيع اتفاق سلام دون البت فيها!

منحت اتفاقية أوسلو الضوء الأخضر لدول الصراع وباقي الدول العربية للتفاوض المباشر مع إسرائيل أو التعاون معها اقتصادياً، وتوّجت هذه الجهود بما يعرف بالمبادرة العربية للسلام عام 2002، والتي أعلنت استعداد الدول العربية جميعها الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها مع تفويض الولايات المتحدة لرعاية مفاوضات السلام بصفتها طرفاً محايداً وضامناً للاتفاق!

الآن وبعد ربع قرن من المفاوضات العبثية، ومن إطلاق "خدعة" مشروع السلام، جاء ترامب برعونته وتهوره، ليزيل الغشاوة، ويعلنها واضحة للجميع أن أمريكا لم تكن يوماً مهتمة بتسوية عادلة ولا بسلام الشجعان كما كان يُروّج له، بل بحفظ الكيان الصهيوني وحماية مصالحها في المنطقة فقط!
تبيّن للجميع اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن العالم بات يحكمه ليس فقط قرنٌ واحد، بل ثورٌ هائج! وتأكد للجميع أن أمريكا لن تكون يوماً دولة محايدة ولا ضامنة للأمن والسلام في المنطقة، بل داعمة لإسرائيل حتى أكثر من اليهود أنفسهم! فماذا نحن فاعلون ؟!

الأمر واضح لكل ذي بصيرة، على السلطة الفلسطينية فوراً، اعلان إسقاط اتفاقية أوسلو نظراً لعدم احترام مواثيقها وعدم استكمال خطة الطريق المصاحبة لها، ثم إعلان فلسطين دولة محتلة بما يضمن نقل المسؤولية كاملة لدولة الاحتلال، مع إلغاء كافة الإجراءات التي صاحبت تلك الاتفاقية المشؤومة بما فيها التعديلات على الميثاق الوطني الفلسطيني، مع إعادة الشرعيّة والدعم الكامل للمقاومة الفلسطينية، لاستخدام كل الوسائل المشروعة في سبيل تحرير دولة فلسطين.
يلي هذه الخطوة، سحب المبادرة العربية للسلام، ووقف التعامل بمعاهدات السلام المنفردة، وكل الاتفاقيات المنبثقة عنها، بما فيها الاتفاقيات التجارية وتبادل البضائع.

أما القيادات والحكومات العربية، فعليها ضرب المصالح الأمريكية في المنطقة، وتعطيل المشاريع الاقتصادية المشتركة، وإلغاء كافة العقود (الاقتصادية والعسكرية) الممنوحة لشركات أمريكية، واستخدامها كورقة ضغط على الإدارة الأمريكية، مع إيقاف التعاون الأمني والاستخباراتي والدعم اللوجستي للمخابرات الأمريكية والقواعد التابعة لها.

وهنا يأتي دور الشعوب العربية الواعية، التي عليها أولاً إحياء حملات مقاطعة المنتجات الأمريكية وتصعيدها بشدّة لضرب مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية، (ومن باب أولى طبعاً مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في البلدان التي تسمح لها دخول أراضيها). والأهم هو الانتفاض في وجه كل من يصر على رهن مقدرات بلاده لدى واشنطن، ويصر على ربط قراره السياسي بالبيت الأبيض، رغم كل ما حصل، وبعد أن نزع ترامب "بغبائه" آخر قطعة تستر ماء الوجه!

باختصار، لقد بصق ترامب في وجوهنا جميعاً دون أن يرف له جفن، فمن يجرؤ على الرد؟!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

10-12-2017

الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

كان عليّ أن أصطحبك إلى السوق لا إلى القبر!





في نهاية الأسبوع الماضي، قررت قضاء بعض الوقت في التسوّق (على غير العادة) وانتقيت بعض الملابس مستغلاً عروض التخفيضات التي امتدت مواسمها لتشمل فصول السنة كلها على ما يبدو، مع تطبيق معظم المواطنين سياسة ترشيد الاستهلاك (مكرهٌ أخوك لا بطل!)

وبعد أن استكملت حاجياتي طلبت من صاحب المحل تجهيزهم بما يلزم من ضبط طول البناطيل، وتجهيز أغلفة لحمل البدلات الرسمية، على أن أعود بعد يومين لاستلامهم.

وقبل أن أخلد إلى النوم تلك الليلة، استرجعت ما اشتريته من ملابس واستذكرت نفسي وأنا أقوم بمعاينتهم أمام المرآة، فشعرت بشعور الطفل الذي يشتري حاجيات الموسم الجديد، أو ملابس العيد ثم يرفض خلعها قبل النوم، أو يصر على أن يضعها بالقرب من فراشه، مع وضع الحذاء الجديد بالذات تحت الوسادة أو قُرب رأسه على أقل تقدير.
تبسّمت لتلك المقاربة، وللحظة كدت ألوم نفسي على عدم إصراري على صاحب المحل لإنجاز المطلوب في نفس اليوم، بدلاً من الانتظار ليومين!
 وفي وسط هذه الأفكار، استرجعت شريط فيديو قصير كان قد وصلني على "الواتس" قبل أيام، يتحدث فيه مُحاضر تركي عن نشأته في عائلة فقيرة تضم ثلاثة من الأبناء (هو أكبرهم)، ولمّا لم يكن والده قادراً على تأمين حاجياتهم، يضطر أن يحرم أصغر أبنائه من شراء ملابس جديدة لذلك العام كونه لم يدخل المدرسة بعد.
وبعد فترة يطلب الطفل الذي لم ينل حظه من الملابس، من أخيه الأكبر استعارة ملابسه الجديدة ولو ليوم واحد، وتحت تأثير الإلحاح والاستجداء، يعده بإعطائه الفرصة لتجربة تلك الملابس مع نهاية دوام المدارس لذلك الأسبوع.
وفي الليلة الموعودة، لم يستطع الصغير النوم من شدّة الفرح، ولم يفارقه طيف تلك اللحظة التي سيرتدي فيها ملابس أخيه الزاهية!

ولكن الأقدار تأتي بما لا نتوقع أن تأتي به، يُتوفى ذلك الطفل في حادث مأساوي في صبيحة اليوم المنشود قبل أن تتحقق أمنيته البسيطة تلك، وقبل أن ينعم جسده الناعم بملامسة تلك الحلّة الجديدة، والأقسى من ذلك أنه مات وفي قلبه لمسة حزنٌ من الحرمان. وعندما ودّعه أبوه قال له (كان عليّ أن أصطحبك إلى السوق لا إلى القبر!)

تواصل معي مسلسل استرجاع شريط الذكريات تلك الليلة، وعادت بي الأيام إلى قصص العائلة التي كانت تنقلها لنا الوالدة، ثم أصبحت فيما بعد من المعالم الفارقة في حياتنا، نسترجعها مع كل جلسة عائلية تهب عليها نسائم الذكريات.
ومنها أن أبي اصطحب إخوتي ذات يوم إلى السوق لشراء كسوة الموسم، وقد ذكر لأمي قبلها أنه يرغب أيضاً في شراء معطف شتوي له، وبعد العودة إلى البيت، اكتشفت أمي أن أبي لم يشتر شيئاً له وأن كل الأغراض تخص إخوتي، فبادرته بالسؤال مستغربة: ولماذا لم تشتر لك معطفاً كما قلت؟
ردّ عليها بعفويّة: أعجبتني هذه الأشياء على الأولاد فاشتريتها لهم!

المسكوت عنه في جواب أبي كان: (نفد المبلغ المخصص للتسوّق ولم يكن يكفي لنا جميعاً، فآثرتهم على نفسي!)

عدت بعد يومين لإحضار حاجياتي ولكني هذه المرة اصطحبت معي ابني لأتسوق له.


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

5-12-2017

الخميس، 30 نوفمبر 2017

زلاّت اللسان أو ردّات الفعل اللاإرادية



تحاول الأفكار المكبوتة أن تشق طريقها إلى الوعي، إذ نفعل أو نقول من تلقاء أنفسنا أشياءً كنا قد حاولنا كبتها في السابق، وقد نضطر أحيانا إلى "تبرير" أفعالنا حتى لا نعترف بالسبب الحقيقي، وهكذا تصبح لنا "لغة مزدوجة"
ومن الممكن استخدام "الإسقاط" حيث ننسب للآخرين مشاعر وأفكار كبتناها نحن في داخلنا!

كلما بذلنا جهداً أكبر كي لا نفكر بشيء ما، كلما فكر به اللاوعي أكثر

من أفكار فرويد



الربيع العربي والتغيير القادم (1)



يحلو للبعض نعت الثورات الشعبية التي شهدها العالم العربي مع بداية هذا العقد بالخريف العربي، في إشارة إلى حالة الإنحدار التي أعقبت هذه الثورات في مجال السياسة والاقتصاد، وفي المجال الاجتماعي والأمني.
 وقد وقر في نفوسهم وران على قلوبهم، اعتقادٌ بأن هذه الثورات (مع افتراض براءتها) قد أثرت سلباً على العالم العربي، ودفعت الى مزيد من الانقسام سواءً على مستوى الدول، او انقسام المجتمعات على نفسها، بالإضافة الى حالات التهجير القسري والقتل والتدمير وانعدام الأمن.

ويحلو لفئة أخرى، نعت هذه الثورات بالربيع "العبري"، في إشارة إلى نظرية المؤامرة، والتي تدّعي أن هذه الثورات قد دُبّرت لخدمة المشروع الصهيوني في المنطقة، وخراب البلاد العربية، وفي هذا تجنٍ كبير على كل من شارك في هذه الثورات ودفع فاتورة الدعوة الى التغيير، سواء بروحه ودمه أو من عمره وعذاباته وأحزانه ودموعه، ناهيك عن تسطيح الأمور وتسفيه عقولنا.
 والحديث يطول عن التُهُم التي تُلقى جزافاً على الموجة الأولى من موجات التغيير التي اجتاحت عالمنا العربي وأدت الى تحريك المياه الراكدة، فكان أن طفا على السطح أقذر ما في مجتمعاتنا وأقذى ما في نفوسنا، ثم لم يجد البعض بُدّاً من توجيه اللوم إلى من حرّك قطعة الجُبن!

ومن هنا، علينا أن نعترف أن العقل العربي الجَمْعي، المسيطر على تفكير الكثير من مجتمعاتنا بما فيها من النخب الثقافية والسياسية، يعتمد على استخدام التعميم، وإطلاق الأحكام العامة، ثم الربط غير المنطقي بين الأحداث والنتائج، وهذه من كبريات مشاكلنا في العالم العربي. وتحليل مرحلة ثورات الربيع العربي لا تخرج عن إطار هذه العقليّة للأسف!

صحيح أن النتائج المرجوّة من الثورات لم تتحقق بالشكل الكامل في بلاد الربيع العربي، وفي بعضها انقلب الوضع الى أسوأ مما كانت عليه، ولكن اللوم يقع على الأنظمة الاستبدادية (والمستفيدون منها) التي حرصت على البقاء في السلطة وضحّت بالبلاد والعباد في سبيل ذلك، بل انها تحالفت مع الشيطان نفسه كي يردّ عنها موجات التغيير. يُضاف الى ذلك طابور الخانعين من أصحاب القرار الذين ترددوا في اتخاذ موقف حاسم، ومارسوا دور المتفرج بانتظار حسم الموقف، ومن ثم تشكيل موقفهم حسب نتائج الحسم!

أما اللوم الأكبر، فيقع على بعض من يتم تصنيفهم أنهم صفوة المجتمع، وطبقة مثقفيه ومفكريه، الذين يحتلون مساحات كبيرة على وسائل الاعلام ومنابر الخطابة ووسائل التواصل الاجتماعي، وينشرون مغالطاتهم التاريخية، ودروسهم التي عفا عنها الزمان وفقدت صلاحيتها، رافضين كل الرفض الاقتناع بأن الحياة قد تغيّرت وأن الفرضيات الفكرية والسياسية التي تربّوا عليها وأصبحت ديدنهم هي بحكم الفاقدة للصلاحية والشرعية على حد سواء.

من المفارقات التاريخية التي سيتندّر عليها خَلَفُنا، أن بعض مثقفينا وقفوا مع الطغيان والزعامات الديكتاتورية في وجه الأبرياء باسم وحدة وحرية البلاد ونصرة فلسطين والوقوف في وجه المخططات الاستعمارية. هؤلاء الذين كنا نُمنّي النفس أن يحملوا مشاعل الثورة القادمة ويكونوا قناديلها، وأن تنير لهم بصيرتهم نهاية النفق المظلم فيقودوا صفوف الجماهير إلى بر الأمان، ولكنهم خذلوا أنفسهم أولاً وخذلوا مجتمعاتهم ثانياً بالوقوف في وجه التغيير ظناً منهم أنهم يحسنون صنعاً.
وهو ما أدى في النهاية إلى تسليح هذه الثورات ودخول قافلة الإرهابيين والمتطرفين على خط الثورات لانعدام الأفق السياسي السلمي من جهة والمغالاة في التعامل مع المتظاهرين السلميين، فكانت النتيجة خراب البلاد وقتل وتهجير العباد.

من غير المعقول أن تخفى حالة الانسداد الفكري التي كانت تعاني منها (وما تزال) مجتمعاتنا العربية على كافة الأصعدة، هناك أزمة أخلاقية ثقافية فكرية وأخرى دينية ناهيك عن الأزمات الاقتصادية والسياسية، وهذا كله نتاج حالة الإنغلاق وتكميم الأفواه وفرض الرأي الواحد، واعتماد نهج الدولة البوليسية مع انتشار سرطاني للفساد. إن أي متدبر واعٍ لا بد أن يعلم أن هذه المجتمعات كانت على صفيح ساخن وعلى شفا جرف هار، بانتظار أن يفور التنور مؤذنا باندلاع ثورة التغيير الجارفة، لقد كانت مسألة وقت لا أكثر لمن يعقل الأمور.

والأنكى من ذلك من يظن أن قمع هذا التغيير، وسحب البساط من تحت قدميه مع انتهاء أول جولة من المعركة، هو حسم للصراع، وقبول بالأمر الواقع، وهو بذلك يكون بالفعل كالنعامة التي تدفن رأسها في التراب!

من يتتبع دراسة المجتمع وحالات التغيير الاجتماعي، يدرك تماماً أن المجتمعات في عمومها تحتكم الى جبهتين: (المحافظون) الذين يدفعون بالمجتمع نحو الركود والاستقرار والثبات على المعتقدات، و(المُجدّدون) الذين يقودون دعوات التغيير ويقلبون المفاهيم والموازين في المجتمعات. لذا فمن الطبيعي أن يكون هناك نزاع اجتماعي بين المحافظين والمجددين على الدوام، ولكنه نوع من التنافس المرغوب به، كي تتقدم المجتمعات وتجدّد دماءها بلين وسلاسة، دون الحاجة الى عمليات هدم وإحلال يتمخض عنهما هزات اجتماعية كبيرة.

وبالضرورة فإن البديل عن حالة (الصراع السلمي) هذه لا بد أن يكون حركة تغيير حادة وشديدة (ثورات أو حركات تصحيح شاملة) وهي استجابة طبيعية من المجتمعات لحالة (البيات الفكري) الطويلة، التي أعاقت حركة التقدم وعطّلت صلاحية المفاهيم وحالت دون ضخ الدماء الجديدة في المجتمع، مما أدى إلى تراكم المشاكل واستعصاء حلها، وأنتج بالتالي حالة من التخلّف العام في المجتمع.
وهذا ما حصل في عالمنا العربي، مع استمرار الأنظمة الاستبدادية في الحكم بنفس الطريقة والمنهج، مع إغلاق كافة منافذ الحوار والاعتماد على كليشيهات واسطوانات مشروخة، دون الالتفات الى ضرورة التغيير والاستماع الى نبض الشارع.

يتكرر في العديد من الأفلام السينمائية مشهدٌ يظهر فيه بطل مغوار يستعرض فنونه القتالية بحركات اليدين والأرجل أو بالسلاح الأبيض أمام منافس ضئيل الجسم نحيل القوام، ولكنه سرعان ما يتناول مسدسه ويردي البطل المقدام عريض المنكبين!
الشاهد هنا، أنك إذا أردت أن تستمر في هذه الحياة عليك أن تطوّر دائماً من أدواتك المستخدمة بحيث تواكب العصر وتتلاءم مع معطياته.
إن محاولة فهم ما يجري في عالمنا العربي وإدراك عقليّة جيل الشباب الحالي باستخدام عقلية وأفكار عقد الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي هي أشبه ما يكون بمواجهة الرشاش الأتوماتيكي بالقوس والنشّاب!

التغيير هو سنّة الحياة والبشر، وكل من يقف في وجه التغيير سيخرج من الباب الصغير، فصدر التاريخ لا يتسع لمن يخاف من وهج مشاعل الثورة. التغيير قادم لا محالة، ومحاولة شيطنة هذا التغيير لن تمنع حدوثه.
لذا أقول ناصحاً، بدلاً من الوقوف في وجه القافلة أصعدوا على متنها وساعدوا على تصحيح مسارها.

وللحديث بقية
 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
30-11-2017



الأحد، 26 نوفمبر 2017

الإبادة الجماعية والتطهير السياسي


تم تعريف الإبادة الجماعية في الأمم المتحدة على أنها (الأفعال المرتكبة بقصد تدمير مجموعة قومية او إثنيّة أو عرقية أو دينيّة جزئياً أو كلياً)
 ولكن في الواقع أنه في الحادي عشر من تشرين اول عام 1946 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في رد فعل مباشر على المحرقة النازية قرارا بالإجماع يقضي بحظر أعمال الإبادة عند القضاء جزئيا أو كليا على فئة دينية أو سياسية وفكرية.

 ولكن كلمة سياسية (فكرية) قد حذفت بسبب اعتراض تقدم به (ستالين) الذي كان يخشى أنه في حال أعتبر القضاء على خصوم السياسة من أعمال الإبادة فإن عمليات سفك الدماء والاعتقالات الجماعية التي مارسها للتخلص من الخصوم كانت ستندرج ضمن اللائحة.
 وقد كان لستالين مناصرون كثر من قادة الدول الأخرى الذين أرادوا أيضا الاحتفاظ بحق القضاء على أعدائهم. مما أدى في النهاية إلى اسقاط الكلمة.

إذا ما نظرنا الى الابادة من منظار المحاكم التي عرّفتها على أنها محاوله اقصاء متعمد لفئة من الناس تشكل حواجز أمام مشروع سياسي معين فهذا التعريف يشمل الفئات السياسية أو الاجتماعية والثقافية، وهو أكثر واقعية وقانونيةّ من حصره في دين أو قومية.

تخيّل معي عزيزي القارئ أنه قد تم إقرار النص الأصلي لتعريف الإبادة الجماعيّة، تُرى هل كان ذلك سيحدّ من الجرائم التي ارتكبتها الأنظمة الاستبدادية في منطقتنا للتخلص من المعارضة والقضاء على خصومهم؟ بلاد الربيع العربي مثالاً؟

يُذكر أن هذا التعريف الأخير تم إقراره في محاكم بلدان أخرى مثل البرتغال، البيرو وكوستاريكا.


أيمن أبولبن
26-11-2017

#التطهير_الفكري #الإبادة_الجماعية #الربيع_العربي 

الأحد، 19 نوفمبر 2017

مستر عادي!


 وُلِد السيد عادي في أسرة عادية
ونشأ نشأة عادية
دخل مدرسة عادية وكان أداؤه فيه عادياً

انتقل إلى ثانوية عادية ذات مدرسين عاديين ومناهج عادية وكان أداؤه عادياً
تم قبوله في كلية عادية في تخصص عادي ومناهجها عادية وأساتذتها عاديين وتخرج بمعدل عادي

حصل السيد عادي على وظيفة عادية في جهة عادية وكان أداؤه عادياً
تزوج السيد عادي من فتاة عادية ورزق منها بأولاد عاديين وتربيتهم كانت عادية
ترقّى السيد عادي بالأقدمية العادية حتى وصل الى التقاعد بطريقة عادية
عاش السيد عادي بقية عمره حياة عادية وأخيراً مات السيد عادي ميتة عادية !!!!



التقديرات تشير إلى أن ٩٨٪ من البشر حياتهم تشابه قصة السيد عادي
وأن ٢٪ فقط هم السيد متميز والسيدة متميزة !!

فهل تعتبر نفسك من النوع العادي أم من النوع المتميز؟! وهل وضعت لنفسك معايير وأهداف محددة كي لا تكون "مستر عادي


أيمن أبو لبن
18-11-2017
منقول بتصرف عن صفحة د طارق سويدان


الاثنين، 13 نوفمبر 2017

(عقيدة الصدمة) الوجه الآخر للنظام العالمي الجديد





تتناول الكاتبة والصحفية الكندية "نعومي كلاين" في كتابها القيّم "عقيدة الصدمة" فكرة "النظام العالمي الجديد" أو "الاقتصاد الحر" التي تبنّاها بروفيسور الاقتصاد في جامعة شيكاغو "ميلتون فريدمان" في خمسينيات القرن الماضي، وتُبيّن كيف ترسّخت هذه المبادئ أيدلوجياً وأصبحت فيما بعد "عقيدة" لدى الإدارة الأمريكية بشقيها السياسي–الاقتصادي، والعسكري-الاستخباراتي، وكانت تستهدف في الأساس البلاد الشيوعية والاشتراكية.
 وهذه العقيدة مبنية في الأساس على مبدأ استغلال الصدمة الجماعية للمجتمعات أو البلدان، والناشئة إما نتيجة ظواهر طبيعية غير مألوفة (أعاصير، فيضانات، أو زلازل مدمرة) أو نتيجة ظروف الحروب والنزاعات العسكرية، وذلك لإعادة بناء وتشكيل هذه المجتمعات من جديد على أسس الخصخصة وتحرير الأسواق التي تؤدي في النهاية الى انسياب المال العام من عامة الشعب ومؤسسات الدولة، الى أيدي قلة قليلة من رجال الأعمال والشركات الخاصة المتآلفين بدورهم مع مجموعة من الطغمة الحاكمة.

اللافت أن عملية التحوّل الاقتصادي أو السياسي، تكون مصحوبة بوعود النهضة الاقتصادية وجلب الاستثمارات الأجنبية، ولكن المحصلة النهائية تكون في الغالب على العكس تماماً: زيادة في الدين العام، مع ازدياد في معدلات الفقر والبطالة، وذوبان في الطبقات الوسطى للمجتمع، مقابل فوائد هائلة لفئات محدودة!

 وقد تم تطبيق استراتيجية "عقيدة الصدمة" في الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر، حيث استغلت إدارة بوش حالة الهلع والصدمة، لتمرير أكثر من مشروع استراتيجي، على رأسها غزو العراق وسرقة موارده لصالح شركات الطاقة الأمريكية، مع ضمان عقود إعمار وخصخصة طويلة الأجل، ثم استغلال الحدث داخلياً وعالمياً للترويج لما يُسمّى "الحرب على الإرهاب" لضمان استمرار ازدهار صناعة الأسلحة الأمريكية.
 ولكن الأهم من ذلك كله، هو خلق "فوبيا الأمن والأمان " التي انتشرت من أمريكا الى العالم كالنار في الهشيم، وكان لها الدور الرئيس في نشوء صناعة أمنية جديدة تُعنى بأنظمة حماية المباني والمنشآت، ووسائل التنقل، وأنظمة التفتيش والكشف عن المواد المحظورة، الى أن وصلت الى تكنولوجيا المعلومات والقرصنة، وما زالت في طور النمو الى يومنا هذا!

وقد أدت إرهاصات الحماية الأمنية، الى رفد الشركات الخاصة الأمريكية بأرباح هائلة، مع تضاعف معدل إنفاق القطاعات الحكومية والخاصة بل والفردية على متطلبات الأمن والأمان عدة مرات في السنوات القليلة الماضية.

وقد تم تطبيق ذات العقيدة، في العراق أثناء حربي الخليج الثانية والثالثة، ولعلكم تذكرون معي أن القيادة الأمريكية أطلقت على الضربة الجوية الأولى التي قامت بها عام 1990 عن طريق الجو والبحر والبر، اسم "الصدمة والرعب" وكان الهدف منها شل حركة "العدو" وإفقاده القدرة على الرد.

وخلال فترة الحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية على العراق، تحدثت الإدارة الأمريكية عبر أكثر من مسؤول، عن إعادة العراق الى العصور الحجرية!
ولكي نستوعب المقصود بهذا المصطلح، علينا أن ندرك جانباً آخر لعقيدة الصدمة لا يقل فظاعة عما ذكرناه آنفاً، وهو المبدأ القائم على غسل الأدمغة ووضعها تحت تأثير الصدمة بحيث تفقد رشدها وإدراكها وتنهار، وقد تم تطبيق هذا التكتيك في عمليات التعذيب المُمنهجة في معتقل غوانتنامو وسجن أبوغريب، والعديد من مراكز الاعتقال الآمنة”Safe House” المنتشرة في جميع الدول الحليفة لأمريكا ومن ضمنها دولنا العربية (حتى من يزعم منها المقاومة والممانعة)، من أجل سحب الاعترافات وجمع المعلومات الاستخباراتيّة من جهة، ولإرهاب كل من يفكر في الوقوف ضد سياسات العالم الجديد!
وما يُضاعف المأساة، أن معظم المعلومات المنتزعة تحت التعذيب كانت خاطئة ومضلّلة، إما نتيجة الخوف والهلع الذي يصيب المعتقل أو حالة التشتت الذهني التي تؤدي الى الهذيان وفقدان الذاكرة.

أساليب التعذيب هذه، اعتمدت في الأساس على فكرة إعادة العقل البشري الى مراحل الطفولة "غسل الدماغ" بحيث يصبح العقل صفحة بيضاء يمكن تلوينها وتشكيلها حسب رغبة من يتحكم بها، ثم انتقلت هذه الفكرة من مستوى البشر الى الدول، بحيث أصبح الهدف هو إعادة مجتمعات بأكملها الى "العصر الحجري" مجازياً، بحيث تفقد أخلاقياتها وحضارتها بل وقيمها الإنسانية، بما يكفل تشكيل هذه المجتمعات أو البلدان على أفكار النظام العالمي الجديد، وقيم السوق الحرة.

المفارقة أو المأساة الحقيقية، أن ما حصل في معظم تطبيقات عقيدة الصدمة، كان فشلاً ذريعاً في إعادة تأهيل البشر الذين خضعوا الى عمليات غسل الدماغ، وفشل أكبر في إعادة تأهيل المجتمعات التي تعرضت لصدمات الحروب، بل إنها غرقت في ظلمات العصور الحجرية، والرابح الوحيد كان كما ذكرنا هو الشركات الخاصة ورجال الأعمال.

خلال قراءتي لهذا الكتاب الصادم، مثل العنوان الذي يحمله، أدركت أن الحركة الصهيونية قد سبقت الأمريكان بتبنّي هذه العقيدة جوهراً ومضموناً، حيث نجحت في نشر الرعب بين صفوف الفلسطينيين عن طريق ارتكاب سلسلة من المجازر الوحشية (دير ياسين، الطنطورة، صفد، بيت درّاس، اللد ومعظم المناطق المحتلة عام 1948) لإحداث تأثير الصدمة على السكّان (التي أفقدتهم القدرة على التفكير العقلاني) ومن ثم تطويعهم لا إرادياً لفكرة الهجرة والبحث عن ملاذ آمن، من أجل حماية أعراضهم وأرواحهم، وصولاً الى قمع رغباتهم بالمقاومة.
وفي خضم تلك الحالة من الصدمة تم البدء فوراً في تغيير ملامح الجغرافيا والتاريخ على أرض الواقع، قبل أن يتمكن السكان الأصليون من امتصاص أثر الصدمة والمطالبة بإعادة أراضيهم المسلوبة أو حتى السماح لهم بالعودة!

ومن هنا اعتبرت الدولة الصهيونية كل من غادر البلاد خلال فترة الهجرة الأولى أجنبياً عن الدولة وتم حرمانه من كافة حقوق المواطنة، أما الذين بقوا فقد استمر العمل على طمس هويتهم ومحاولة خلعهم من جذورهم، وقطع أي تواصل بينهم وبين ذويهم في الخارج.

هذه كانت النسخة الأولى لعقيدة الصدمة في اعتقادي، والتي يعزى لها إعادة تشكيل خارطة فلسطين، جغرافياً وديموغرافياً بل وتاريخيا!

ما زالت عقيدة الصدمة تلعب دوراً كبيراً في تهيئة الأجواء والظروف الملائمة كي ينقض مصاصو الدماء على ضحاياهم، ولكنهم على عكس أفلام الفانتازيا لا يتشحون بالسواد ولا نرى لهم انياباً بارزة، فهم يرتدون ملابس أنيقة وربطات عنق فاخرة، يتحدثون عن الخصخصة والازدهار الاقتصادي، وحماية أمننا من جيراننا واعدائنا على حد سواء، ويعرضون علينا المساعدة في القضاء على الإرهاب والفكر المتشدد والمتطرف، وكل الفزّاعات التي تثير خوفنا!

أختتم مقالي باقتباس النص التالي من الكتاب ((إن النظام الديني المتشدد والمتعصب للعرق، هو الذي يطالب عادة بإبادة جماعات وحضارات كاملة بهدف تحقيق رؤيته إلى عالم طاهر)).

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
13-11-2017