السبت، 23 مايو 2015

أزمة الصندوق الذي بداخلنا


أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

 


 

 

من نظريات الفكر الحديث المتداولة على نطاق واسع نظرية "التفكير خارج الصندوق" Thinking Out Of The Box وتهدف النظرية إلى دفع الفرد للخروج من دائرة أنماطه السلوكية المعتاد عليها وفتح المجال له لإطلاق فكره الإبداعي بعد أن يتحرّر من أثقال الفكر التقليدي، وهي نظرية تم تطويرها تحديداً لحل المشكلات وعوائق العمل بطرق ابداعية بعيداً عن الحلول التقليدية أو المحاكاة.

 

ويرمز الصندوق الى التفكير التقليدي النمطي، ويكون الخروج منه عن طريق تغيير طريقة التفكير أو عكسها وإعادة النظر في الفرضيات أو المسلّمات الموجودة في ذهننا، وهذا بدوره يساعد على ايجاد بدائل جديدة قد تكون أسهل الحلول وأقصرها، ولكن إصرارنا على التفكير النمطي التقليدي قد يجعلنا نغفل عن هذه الحلول البسيطة والبديهيّة.

 

الغريب في الأمر أن التجارب أثبتت أن الأشخاص البسطاء البعيدين عن الإختصاص، والأطفال عموماً يتمتعون بالقدرة على الإبداع والبُعد عن النمطيّة في التفكير، لأنهم لم يخضعوا لتجارب حياتيّة فرضت عليهم نمطا سلوكيا معينا، أو جعلتهم يتقوقعون داخل الصندوق، وكم من مشكلة عويصة قام بحلها طفل صغير أو شخص بسيط بتلقائية وبسهولة متناهيّة.

 

ومن الناحية الإجتماعية والنفسيّة ينصح المختصون مَنْ يُعانون من ضغوطات في العمل أو في الأسرة، بالتعبير عن الضغوط النفسية بطرق غير معتادة مثل رسم صورة، كتابة الشعر، الغناء، أو ممارسة رياضة جديدة، والقيام بزيارة أماكن جديدة يزورها الشخص لأول مرة، وكل هذه النصائح تندرج تحت باب "الخروج من الصندوق".

 

يقول المفكر الإسلامي الدكتور محمد شحرور أن أزمة الفكر الإسلامي أو العربي إجمالاً تكمن في البحث عن "النموذج" ومحاولة استنساخه أو إعادة انتاجه، ويضرب مثالاً على ذلك بأن الأمة الإسلاميّة تصبو لإعادة تكرار نموذج المسلمين الأوائل، بدلاً من العمل على تشكيل هويّة مستقلّة تخص جيلنا وتقدّم إضافةً للبشريّة، كما أنها حافظت على العلوم الدينيّة المتوارثة عبر الأجيال مع محاولات خجولة فيما يخص تطوير الخطاب الديني وإعادة إحياء هذه العلوم من جديد.

 

أتفق تماماً مع هذا التحليل الذي يضع اليد على الجرح تماماً، فعندما ننظر إلى واقعنا نجد أن العقل العربي هو أسير حلم الزعيم الذي ينهض بالأمة، والبطل "المُلهَم" الذي سيحقق المعجزات ويحل كل المشاكل بعصا سحرية، ولهذا ترانا دائمي البحث عن هذا "النموذج" في محاولة منّا للهروب من مسؤولياتنا، وعدم تكلّفنا عناء التغيير أو دفع ضريبته.

 

أما على مستوى موروثنا الديني، فبدلاً من إخضاع العلوم الدينية المختلفة للتراكم المعرفي والتطور باستخدام الأدوات المعرفية الحديثة كما حصل مع باقي العلوم، تم تأطير علوم الدين ووضع مُنتجاتها من عهد الأوائل داخل صندوق وحصر تفكير كل الأجيال التي تلت تلك الحقبة في نطاق هذا الصتدوق دون ترك أي مجال للتحديث والتطوير أو إخضاع هذه المُنتجات للتراكم المعرفي والتطوّر عبر الزمن، وبهذا نكون قد أغفلنا الواجب الأساسي لنا ألا وهو إضافة إبداعنا نحن كجيل مستقل مختلف فكرياً ومتقدّم معرفياً، تقع عليه مسؤولية النهوض بالأمة وتقديم حلول وأفكار تناسب العصر وتضعنا في تنافس مع باقي الأمم.

 


 


 

قال لي أحد الزملاء في العمل ذات يوم، أنه أراد تدريب أحد الموظفين الجدد على كتابة وتحرير السندات المالية، فقام بإحضار سند مالي من الأرشيف مُعبّأ حسب الأصول وطلب من الموظف تحرير سند مطابق له، مضى وقت طويل دون أن ينجح الموظف في اتمام المهمة ولاحظ زميلي أن الموظف الجديد يقوم بإعادة كتابة السند بالكامل ثم يتلفه ويعيد الكرّة من جديد، ولدى سؤاله عن السبب قال لقد قمت بتحرير السند ولكني أجد صعوبة في تقليد التوقيع الموجود على السند الأصلي !!

 

هذه القصة التي تحمل طابع الكوميديا السوداء، تُلخّص واقعنا العربي للأسف، فطرق التعليم عندنا هي طرق استنساخيّة تحث على التقليد والمحاكاة وحفظ المعلومة دون أن نعقلها أو نفهمها، نحن نهتم بالنتيجة والمحصّلة دون العمل على إمتلاكنا القدرة على ربط المعلومة بواقعنا للإستفادة منها أو تقديم أفكار جديدة، نحن نبحث عن السَمَك ولا نريد ان نتعلم الصيد، والمشكلة الأكبر أننا ننقل هذا الإرث الى الأجيال التي تلينا ونحاول إقناعهم أو إجبارهم في بعض الأحيان على اتباع نهجنا، وهذا ليس محصوراً في المدارس والجامعات ولكنه يشمل جميع قطاعات مؤسساتنا العربية الا ما رحم ربي، نحن بعيدون كل البُعد عن الحكمة التي تقول (( لا تكرهوا أولادكم على آثاركم ، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ))


 

معظمنا قرأ نظرية القرود الخمسة الشهيرة، وتأثر بها لأنه بشكل أو بآخر عاشها بنفسه في الواقع أو عانى منهاً في مكان العمل أو في الدوائر الحكوميّة التي راجعها، أو حتى في مجتمعه الأسري الصغير، ولكن القليل منّا من استفاد من هذه النظريّة وغيّر طريقة حياته بناءّ عليها.

 

مسؤولية المشاكل التي تسببنا بها تقع على عاتقنا نحن وليس على أي شخص آخر، وعلينا نحن أن نجتهد كي نقوم بحلّها، وكي ننجح في ذلك علينا أولاً أن نغيّر العقليّة التي تسبّبت بهذه المشاكل، وهذا التغيير المنشود يتطلّب البدء بمحاولة التفكير خارج الصندوق.

 

إبحث عن الصندوق الذي بداخلك، عايِنْ ما فيه وأَعِدْ ترتيبه، ثم احرص على أن تُبقيه مفتوحاً.


 


أيمن أبولبن
20-5-2015

 

رابط المقال على القدس العربي


 

صفحة الكاتب على الفيسبوك


 

للتواصل عبر تويتر


 

الأربعاء، 6 مايو 2015

ضع نفسك مكاني وسترى الأزرق أسود !



 

أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

 




 

انتشرت في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل الإجتماعي مجموعة من الصور التي تثير حيرة المُشاهد وتحتمل أكثر من وجهة نظر، ومن أشهر هذه الصور صور الفستان الشهير الذي رآه البعض باللونين الأزرق والأسود، والبعض الآخر رآه باللونين الأبيض والذهبي، ثم تلا هذه الصورة، صورة لقِطّة إيرانيّة وهي تنزل درجات السلّم فيما يراها البعض أنها تصعد الدرج.

 

التفسير العلمي لهذه الظاهرة، يشير إلى أن اختلاف الإضاءة وانعكاسها في الصورة، بالإضافة إلى إختلاف خلفية الصورة وودرجة الظل يؤدي إلى إختلاف درجات اللون بين شخص وآخر، ويؤثر على تحليل الدماغ للصورة ومن هنا يأتي اختلاف تحليل الصورة بين شخص وآخر، والأدهى من ذلك أن الشخص الواحد إذا قام بتغيير الزاوية التي ينظر من خلالها إلى الصورة، أو قام بالتركيز على نقطة معينة في الصورة، سيؤدي إلى إختلاف تحليله الشخصي للصورة ويستطيع أن يرى الجانب الآخر من الصورة والذي كان مُغيّباً عنه !!

 

ويضيف العلماء، أن النظام البصري الخاص بكل شخص قد يُهمل بعض الجوانب في الصورة مما يؤثر على تركيزه ويقوده إلى تحليل بصري مختلف عن الآخرين، أو مختلف عن الواقع.

 


 



 

هذه الظاهرة تستحق أن نتوقف عندها ونتأملها مليّاً، فبالرغم من تكرارها وإختلافنا في الرؤية مع الآخرين في مناسبات عديدة، إلا أننا نحاول أن نقفز عن هذه الحقيقة ونُصر على إقناع الآخرين بوجهة نظرنا في أمور تحتمل الرأي والرأي الآخر وتستوعب كل الإحتمالات، وفي خضم حماسنا لوجهة نظرنا الخاصة ننسى أو نتناسى إن الإختلاف في وجهات النظر يجب أن لا يُفسد للود قضية وكما قال الإمام الشافعي : (( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ))

 

لقد خلقنا الله مختلفين في كل شيء ولو أراد أن يخلقنا على نفس الشاكلة لفعل، ولكنه جعل لكلٍ منا خصوصيّة وسمات شخصيّة نختص بها دون غيرنا، وأعطانا حريّة التفكير والقرار وسخّر لنا الأدوات المعرفيّة كي نتميّز عن بعضنا ونختلف ونتحاور ونتعاون فيما بيننا في تبادل المعرفة وتحقيق المصالح المشتركة، يقول الله تعالى (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ولكن على ما يبدو أن كل واحد فينا يتوق في داخله للشعور بأنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة التي لا تحتمل أي إختلاف أو تعارض معها.

 

في إحدى الدورات التدريبيّة في الإدارة، وزّع المُحاضر علينا أوراق قصّة قصيرة بعنوان " مَنْ قتلَ الحاجّة آمنة؟ " تتحدّث بإختصار عن إمرأة كبيرة في السن تسكن في أحد الأحياء الشعبيّة وتُصاب بأزمة قلبيّة مُفاجئة تستدعي ذهابها إلى المستشفى على وجه السرعة، ولمّا كانت تعيش لوحدها ولا تملك سيّارة، طلبت مساعدة جارتها التي حاولت طلب سيّارة إسعاف فتعذّر ذلك واضطرّت إلى النزول بها إلى الشارع والبحث عن أي سيّارة تُقلّهما، وبالفعل استقلّت سيّارة أجرة وطلبت من السائق أن يسلك طريقاً مختصراً للوصول إلى المستشفى بأسرع وقت ولكنه رفض وتعلّل بأن الطريق المُختصرة غير مُعبّدة بالكامل وأصر على سلوك الطريق الرئيسيّة رغم الإزدحام المروري، وتتعدّد الشخصيّات في القصة من شرطي السير الذي يرفض مغادرة موقعه ومرافقة السيّارة لضمان وصولها بأسرع وقت الى موظف الإستقبال في المستشفى الذي يصر على طلب الوثائق الرسميّة لعمل إدخال المستشفى، الى الطبيب المقيم الذي يحاول اسعاف المُصابة ويفشل في ذلك.

 

بعد قراءة القصّة بتمعّن طلب منّا المًحاضر أن نكتب على ورقة مستقلّة إسم الشخصيّة التي تسبّبت بوفاة الحاجّة آمنة حسب وجهة نظرنا الشخصيّة وتعليل ذلك، وكانت المفاجأة أن أجوبة المُشاركين قد شملت كل الشخصيّات في القصّة وكانت التعليلات منطقيّة إلى حدٍ ما ولكن بعضها راجح أكثر من الآخر؛ قال المحاضر أن كل شخص منّا إختار هوية القاتل بناءً على معلموات معرفيّة وسلوكيّة متراكمة في فكره تؤثر على تحليله ورؤيته للأشياء وقد تقوده إلى استنتاجات وقرارات خاطئة، وأشار إلى أن الشخصيّة التي تسبّبت بشكل مباشر في مقتل الحاجة آمنة كان السائق الذي تقاعس عن أداء واجبه في إيصالها إلى المستشفى بوقت مناسب، بينما كان تأثير بقيّة الشخصيّات محدوداً وغير مباشر.

 

في نهاية المحاضرة تناقشت مع الدكتور المُحاضر وقلت له أن شرطي المرور كان بإمكانه أن يستخدم السلطة الممنوحة له في إخلاء الطريق وضمان وصول السيّارة إلى المستشفى في وقت قصير، فقال لي يبدو أنك تعاني من مشاكل مع السُلطة يا بُنيّ !

 

هناك حكمة تقول put yourself in my shoes أي ضع نفسك مكاني وأنظر إلى الأمور من منظوري الشخصي حتى تتمكن من الحُكْم على الأشياء من زاوية أخرى غير تلك التي تُركّز عليها، وهنا يكمن سر إحترام وجهات النظر الأخرى رغم إحتفاظنا بحق الإختلاف بين بعضنا البعض، ولكننا على الأقل نستطيع أن نتفهّم هذا الإختلاف ونقدّره ونتقبّله بصدر رحب، وقد تكون هذه التجربة أو محاولة رؤية الأشياء من وجهة نظر الآخر، كفيلة بأن تغيّر من وجهة نظرنا الشخصيّة وتدفعنا للإعتراف بصحة الرأي الآخر، ولكن الإختلافات ستتعمّق وتتعاظم إذا أدركنا خطأ قراراتنا وآرائنا في موضوع ما ثم أخذتنا العزّة بالخطأ وأصرّينا عليه كما يفعل البعض !!

 

هناك توصيف باللغة الإنجليزية في حالة حدوث شيء غير متوقع رغم أن مقدّماته واضحة للعيان، I didn't see that coming وهو وصف جميل يعجبني، لأنه يقرّ ويعترف بأن البوادر كانت موجودة وبالإمكان رؤيتها لكن الشخص عجز عن ملاحظتها وقراءة الأحداث بعناية مما أدى إلى التفاجىء بنتائجها. بالفعل فالحقيقة متوفرّة ومُتاحة لمن يُمعن النظر ويتحقق من الأشياء ولكن، يعجز عن رؤيتها كل من يستخدم نظّارة خاصّة، لا يرى العالم إلاّ من خلالها.

 

ليتنا نتوقف قليلاً ونقوم بتغيير الزاوية التي ننظر إلى الأمور من خلالها، وأن نستمع بعناية إلى الآخر ونتمعّن في كلامه محاولين أن نضع أنفسنا في مكانه حتى نتمكّن من فهم وجهة نظره، بدلاً من حالة الجمود في الرأي التي نعاني منها. وليتنا نحاول إدراك ما بين السطور والتدقيق في الأحداث وتحليلها بتجرّد بعيداً عن الشخصنة والأفكار المُسبقة والقراءات السطحيّة التي لن تؤدي سوى لقرارات خاطئة مصيرها محتومٌ بالفشل.

 

أيمن أبولبن
2-5-2015

 

رابط المقال على القدس العربي


 

صفحة الكاتب على الفيسبوك


 

للتواصل عبر تويتر

الجمعة، 1 مايو 2015

لا تقتلوا الفلسطينيّ مرّتين



   أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

اختارت دولة الكيان الصهيوني مذيعة القناة الاسرائيلية العاشرة "لوسي هريش"، التي تنحدر من أصول عربيّة وبالتحديد من مدينة الناصرة، للمشاركة في أحتفاليّة الذكرى السابعة والستين لقيام دولة إسرائيل، بإيقادها شعلة الإحتفالات التي إنطلقت الأسبوع الماضي وتستمر عدة أيام. وتأتي هذه الإحتفلات بالترادف مع إحياء الفلسطينيين ذكرى إغتصاب فلسطين أو ما يُعرف بذكرى "النكبة".

   لوسي هريش صحافية عربيّة مُسلمة تحمل الجنسية الإسرائيلية، من مواليد ديمونا عام 1981، نشأت وترعرعت في كنف الدولة الصهيونية ودرست في مدارس يهودية من عمر الثالثة ولغاية تخرّجها من المدرسة الثانوية، لتلتحق بعدها بجامعة تل أبيب وتحصل على درجة البكالوريوس في الصحافة والإعلام، وتنطلق بعد ذلك في مشوارها المهني الذي شهد إستقرارها مؤخراً في القناة الاسرائيلية العاشرة.

  لا شك أن إختيار الدولة الصهيونيّة لفتاة عربيّة فلسطينيّة للمشاركة في إحتفاليّة قيام الدولة له مدلولات كثيرة، فالدولة الصهيونيّة تسعى للرد على إتهامها بأنها دولة إحتلال تُمارس العنصريّة ضد المواطنين العرب وتُصادر حقوقهم الأساسيّة، بالإدعاء أنها دولة ديمقراطيّة بعيدة عن التعصّب والتطرّف والعنصريّة، تُعامل مواطنيها بمبدأ العدل والمساواة بغض النظر عن العِرْق والجنس والدِين، دولة القانون التي تعمل وفق الدستور. المفارقة أنّ مجموعة من اليهود المتطرفين قاموا بالإعتراض على إختيار فتاة عربيّة للمشاركة في إحتفالات قيام الدولة، متجاهلين الفوائد الجمّة التي جنتها دولتهم من هذه الدعاية الإعلاميّة، وهذا دليل عمليّ على أن التعصّب والتطرّف يشلّ تفكير صاحبه ويجعله لا يرى أبعد من أنفه !!

  من المؤسف حقاً أن نرى إعلاميّةً فلسطينيّةً ناجحة مثل لوسي هريش تلعب دوراً سلبياً مسيئاً للقضيّة الفلسطينيّة في حين أنه كان بالإمكان أن تلعب دوراً بارزاً ومهماً في إيصال وجهة النظر الفلسطينيّة للمجتمع الدولي بطريقة فعّالة ومؤثرة نظراً لمهاراتها ومهنتها وموقعها في دولة الإحتلال.

   خيبة الأمل التي أُصبنا بها جميعاً، يجب أن تكون حافزاً لنا لإعادة النظر في تناولنا لقضية فلسطينيي الداخل أو عرب ال 48، فهذه الفئة من الشعب الفلسطيني قد تم تجاهلها وتغييبها عن الحاضر العربي وعزلها عن المأساة الفلسطينيّة، وكأنهم أصبحوا جزءاً من الدولة الإسرائيليّة لا يمتّون لنا بصلة، ويتجلّى هذا في الغياب الكامل لوسائل الإعلام العربيّة في تناول قضاياهم وإلقاء الضوء على معاناتهم اليوميّة مع سلطات الإحتلال، وإذا كان هناك من تغطية فهي تغطية خجولة وبإمكانيات محدودة لا تتعدّى بضع تقارير من هنا وهناك تتناول في مجملها قضايا انتخابات الكنيست وتمثيل الأحزاب العربيّة، وهذا التقصير ليس محصوراً على وسائل الإعلام فالمؤسسات الرسميّة العربيّة ومنظمات حقوق الإنسان لا تتناول قضايا التمييز العنصري الذي يتعرّض له المواطنون العرب في الدولة الصهيونيّة بقدرٍ كافٍ من الإهتمام.

  هذه العُزلة التي أطبقت على فلسطينيي الداخل، أثّرت بشكل لا إراديّ على صورتهم في أذهاننا نحن المواطنون العاديّون من المحيط إلى الخليج فبمجرّد ذكر أن شخص ما يحمل هويّة اسرائيلية أو ينتمي لمناطق 48 المحتلّة يتبادر إلى ذهننا خليطٌ من المشاعر المتناقضة في كيفية التعامل مع هذا الشخص وأي قالب سنضعه فيه ؟ هل هو ذلك العربي الذي انسلخ عن قوميّته وتأثر بمخالطته للصهاينة وإقامته في دولتهم ليصبح من "عرب إسرائيل"، أم هو ذلك الشخص الذي ما زال يحمل همّ الإستقلال والتحرّر!!

   قبل أن نبدأ بإصدار الأحكام، دعونا نراجع أنفسنا أولاً، لقد دفعنا كل الفلسطينيين الذين صمدوا على أرضهم ولم يغادروها خوفاً أو فزعاً أثناء حرب عام 48، نحو الإنضواء تحت لواء الدولة الصهيونيّة، فعندما تعترف منظمة التحرير الفلسطينيّة (مدعومةً بقرارٍ عربي) بدولة إسرائيل على أراضي فلسطين المحتلة قبل عام 67، فهذا إعترافٌ بأن المدن والقرى الفلسطينية داخل الخط الأخضر أصبحت تابعة لإسرائيل، وأن أصحابها الأصليين باتوا مواطنين في هذه الدولة، وعليهم التعامل مع السلطات الإسرائيلية على هذا الأساس، وأقصى ما يمكن أن يطمحوا اليه هو الحصول على حقوقهم المدنية الكاملة أُسوةً بجيرانهم اليهود (أصحاب الأغلبية).

   مليون ونصف فلسطيني يحملون الهويّة الإسرائيليّة ويقبعون تحت سلطة الإحتلال، بما يشكّل نسبة 20% من السكّان، إلاّ أن هؤلاء يُعاملون كمواطنين درجة ثالثة بفعل يهوديّة الدولة، فهم يتعرضون لحملات تذويب من الداخل على كافة الأصعدة، الثقافيّة والفكريّة والإقتصاديّة والدينيّة، حتى الموتى منهم لا يفلتون من تعسّف سلطات الإحتلال.

  فلسطينيو الداخل منقطعون عن باقي الشعب الفلسطيني في الضفة الغربيّة وفي الشتات بفعل قانون المواطنة، الذي يحصر حقوق المواطنة بالفلسطيني الذي تواجد على أرضه عند إحتلالها عام 48، ويحرم البقيّة من حق العودة والإقامة على أرضه، ليس هذا فحسب، بل إنه يحظر على الفلسطيني المواطن في دولة إسرائيل من لمّ شمل عائلته إذا لم تنطبق على أفرادها شروط المواطنة، وهو بالتالي ممنوع من تكوين روابط عائلية خارج إطار الدولة الإسرائيليّة، بينما يتم إعتبار إسرائيل وطناً قومياً لليهود بغض النظر عن مكان مولدهم أو إقامتهم.
  
  ماذا قدّمت السلطة الفلسطينيّة وحكومات الدول العربيّة لفلسطينيي الداخل لتعويضهم أو لضمان عدم إنسلاخهم عن القضية الفلسطينيّة، هل تم إعتبارهم جزءاً من الشعب الفلسطيني في مفاوضات السلام ؟ هل هم شركاء في صناعة القرار الفلسطيني ؟ هل يحق لهم التصويت في انتخابات السلطة ؟ هل يحملون اي وثيقة فلسطينية ؟ هل هناك من يمثلهم في دوائر صنع القرار ؟ هل هناك من مظلّة فلسطينية يستظلّون بها ويتعاملون مع العالم العربي من خلالها ؟!

الإجابة على جميع هذه الأسئلة هو النفي بالطبع، فمَن يُحاسب مَن !!

أستذكر هنا، وصف الراحل محمود درويش لحال الفلسطيني تحت الإحتلال

عارٍ من الإسم من الإنتماء
في تُربةٍ ربّيتها باليدين

أيّوبُ صاحَ اليوم ملء السماء
لا تجعلوني عبرةً مرتين !


 أمثال لوسي هريش من فلسطينيي الداخل هم قلّة قليلة بل نادرة، بينما بقيّتهم ما زال محافظاً على هوّيته كالقابض على الجمر، لا تخذلوهم ولا تقتلوهم مرّتين.

26-4-2015



الثلاثاء، 14 أبريل 2015

في ذكرى سقوط بغداد، محامي الشيطان شريكٌ في الجريمة



 

 

من أبرز الأشخاص الذين لعبوا دوراً مهماً في تهيئة الأجواء الديبلوماسيّة لغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين، كان وزير الخارجيّة الأمريكية "كولن باول" ذو الأصول الجامايكيّة، الذي قاد المعركة السياسيّة للإدارة الأمريكية في المحافل الدوليّة وأروقة الأمم المتحدة لكسب تأييد دولي للحرب أو تجنّب معارضتها على أقل تقدير.

 

لم يُفلح "كولن باول" في ضمان تصويت مجلس الأمن لغزو العراق ولم ينجح كذلك في كسب تأييد دولي داعم للولايات المتحدة -عدا بريطانيا- في حربها ضد العراق، وبعد أشهر قليلة من سقوط بغداد تبيّن زيف إدعاءاته في إمتلاك العراق أسلحة دمار شامل وإرتباط نظام صدام بالقاعدة، ونتيجةً لذلك رُسمت صورته في أذهان الكثيرين بصفته "محامي الشيطان" الذي ما ينفك عن تقديم الشواهد والبراهين للدفع ببراءة موكّله رغم معرفة الجميع ومعرفته هو شخصياً بثبوت إدانة مُوكّله.

 

انسحب "كولن باول" من الساحة السياسية بعد انتهاء فترة رئاسة بوش الأبن الأولى، وقام بتدوين مذكراته في كتاب لاحقاً، وأدلى بشهاداته عبر الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، محاولاً توضيح موقفه الشخصي المُعارض للحرب ومحاولاته تغيير موقف الرئيس بوش والتي ذهبت أدراج الرياح، ويصف ذلك قائلاً أن أصعب المهام التي قام بها كانت محاولة إقناع العالم بضرورة غزو العراق وقلب النظام هناك والبحث عن مُسوّغات وأدلة دامغة عن إمتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وفي ذات الوقت محاولة ثني الرئيس عن خوض الحرب - خلف الكواليس المغلقة - من خلال تعديد الأضرار التي ستلحق بالإدارة الأمريكية ومسؤوليتها المباشرة عن رعاية العراق بعد سقوطه. وفي هذا الصدد يقول "باول" انه في أحد الإجتماعات حذّر الرئيس بوش من تحمّل الولايات المتحدة كل تبعات انهيار النظام العراقي ودخول البلاد في حالة فوضى عارمة نتيجة انهيار مؤسساته، وذكّره بأن الزبون الذي يكسر بضاعة ثمينة داخل محل تجاري فإنه سيتحمّل ثمنها (إذا كسرتها فهي لك) !!

 

اللافت للإنتباه أن "باول" لم ينسحب من منصبه بعد فشله في تغيير دفة الأمور لصالح الحل السياسي وتشديد العقوبات وتكثيف حملات التفتيش الدوليّة بدلاً من خيار الحرب، ولم يُبدِ كذلك أي تحفّظ على استمراره في أداء مهمّته رغم تعارضها مع قناعته الشخصيّة (حسب قوله)، والأعجب من ذلك أنه لم يُبدِ ندمه على ذلك فيما بعد، بل كان يفتخر بأدائه لواجبه تجاه الوطن وتجاه رئيسه على أتمّ وجه رغم اختلافه معه حول الحرب !!

 

فشلُ الإدارة الأمريكيّة في استصدار قرار مؤيد للحرب من مجلس الأمن، وأخذها زمام المبادرة العسكريّة المنفردة بعيداً عن أي تحالف دولي أو حتى مشاركة حلف الناتو، جعل من غزو العراق حرباً غير شرعيّة، ويترتّب على هذا أن كل تبعات الغزو تعتبر جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي، فما هو سر إصرار الإدارة الأمريكيّة على المضي قدماً في هذه الحرب رغم كل التحذيرات والنصائح والمحظورات ؟! بالتأكيد كان هناك العديد من التحليلات السياسيّة والإقتصاديّة التي تربط بين قرار الحرب ومصالح أمريكا الإقتصادية والعسكريّة بالإضافة الى السيطرة على منابع النفط، ولكن هل هذه هي الحقيقة الكاملة ؟!

 

يزداد المرء حيرةً حين يعلم أن الرئيس بوش الإبن وفي أعقاب هجمات سبتمبر طلب من إدارته التحضير لغزو العراق وقلب النظام هناك، فكان رد الإستخبارات العسكرية أن لا دليل على تورط العراق في إعتداءات سبتمبر وأن كل الدلائل تشير إلى تورّط القاعدة، ولكن بوش أصرّ على ضرب العراق قائلاً أن نظام صدّام هو راعي الإرهاب في المنطقة، فما كان من أجهزة الإستخبارات إلا أن قالوا لا يمكننا في المرحلة الحالية تبرير أي حرب نخوضها في العراق، حربنا القادمة يجب أن تكون في أفغانستان. وبعد جهد جهيد تم إقناع الرئيس بوش أن يبدأ بحرب القاعدة في أفغانستان على أن يتم التحضير لضرب العراق بعد ذلك وإيجاد المُسوّغات القانونية لها !!

 

في ذكرى سقوط بغداد، ما زالت الذاكرة العربيّة عابقةً بذكريات مؤلمة لن يمحوها تقادم الزمن، وما زالت تبعات الحرب تؤثر في صياغة مجريات الأحداث على أرض الواقع، وتشكيل الحالة العامة للأوضاع في المنطقة، وتبقى نتائج الحرب من دمار وأعداد قتلى وتشوّهات للأحياء، شاهدة على أكبر جريمة حرب في العصر الحديث، وما زال جرح جرائم سجن أبوغريب نازفاً إلى يومنا هذا، وذكرياته ما زالت تدمي القلوب، تسريبات صور أبو غريب عرّت فجاجة وبشاعة الجيش الأمريكي الذي يدّعي نشر الحريّة والديمقراطيّة ودفاعه عن حقوق الإنسان. لن تستطيع إعترافات "باول" وغيره أو حتى إعتذاراتهم إن وجدت، محو هذه الذكريّات المؤلمة، ولن يشفي غليل كل من عاصر هذه الحرب إلا القصاص العادل من كل من كان له دور في هذه الحرب.

 

كما فشل "باول" في تجميل صورة الإدارة الأمريكيّة وإقناع المحافل الدوليّة بشرعيّة الحرب، فقد فشل مرّة أخرى في تجميل صورته في مخيّلة الناس، حيث بات من الواضح ان صورة "محامي الشيطان" ستظل تطارده، لتذكّره بأنه شريكّ في الجريمة، وعليه تحمل مسؤولياته في انهيار منظومة الإستقرار في المنطقة نتيجة حمق إدارته وعجرفتها.

 

عزيزي كولن باول، يبدو أن رئيس بلادك قد أخذ بنصيحتك، فهو لم يكتفِ بتدمير وكسر كل ما هو ثمين، ولكنّه قتل صاحب المتجر وعائلته وأهل الحي كي ينفذ بجريمته !!

 

أيمن أبولبن
14-4-2015

 

الأربعاء، 8 أبريل 2015

دور المثقف في الكشف عن وجه الحقيقة


أيمن أبولبن
7-4-2015

يعتبر توفيق الحكيم الأديب المصري الراحل بمثابة الأب الروحي لثورة يوليو عام 52 ، وكان مُقرّباً من الرئيس عبدالناصر ومؤيداً كبيراً له، ورأى فيه القائد "الحُلم" الذي سيقود الأمة العربيّة إلى برّ الأمان وصناعة الأمجاد، ورغم أن الحكيم انتقد السياسات غير الديمقراطية للثورة والمجلس العسكري ودوّن هذه الإنتقادات في مؤلفاته، الّا أنه بقي وفيّاً لمبادىء الثورة وللزعيم الراحل عبدالناصر، الذي أحبّه حبّاً جمّا، وتعلّق به، وعلى الجهة المقابلة منع عبدالناصر مقص الرقيب من الإقتراب من مؤلفات حكيم حيث لم تُحجب أو يتم مصادرتها كما كان يحصل لباقي الأدباء.

يُذكر أن الحكيم حزن حزناً شديداً لوفاة عبد الناصر حتى أنه فقد وعيه وأنهار في حفل تأبينه، ولكن هذا كلّه لم يمنع هذا المثقف والروائي المسرحي الكبير من أن يدلي بشهادته للتاريخ ولإحقاق الحق، ولم يخش في ذلك لومة لائم فقام بتدوين مذكراته عن الثورة بمناسبة مرور عشرين عاماً على إنطلاقتها في محاولة لمراجعة ومحاسبة النفس، ونشرها في كتاب "عودة الوعي" عام 1972 موضحاً موقفه من ثورة 52 وواصفاً إياها بحالة "اللا وعي" التي عاشها، مثله مثل عامة الشعب المصري، بل ومعظم الشعوب العربية من المحيط الى الخليج، حيث لم تسمح حالة الهيجان العاطفي المفعمة بالشعارات والآمال العريضة، بأي إختلاف مع الزعيم "معبود الجماهير" في رؤيته السياسيّة الشموليّة في الحكم، وارتجاليته في اتخاذ مواقف استراتيجية حرجة تؤثر على مصير الأمة، ولم تسمح أيضاً بأي محاولة لتصحيح الأوضاع أو تفادي الأخطاء وتداركها قبل وقوعها، فقطار الثورة كان يسير مسرعاً إلى حتفه وعلى متنه أحلام وآمال الشعوب العربية.

   اعتذر توفيق الحكيم عن تأييده الأعمى للثورة رغم علمه بالممارسات الديكتاتورية، وقال بما نصّه :

((وليس بعجيب أن يتلقّى الشعب في حماس العاطفة هذه الخطب بالتهليل والتكبير ولكن العجيب أن شخصا مثلي محسوب علي البلد هو من أهل الفكر، قد أدركته الثورة وهو في كهولته يمكن أن ينساق أيضا خلف الحماس العاطفي، ولا يخطر لي أن أفكر في حقيقة هذه الصورة التي كانت تُصنع لنا !، كانت الثقة فيما يبدو قد شلّت التفكير....... سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتي غاب عنا الوعي !!))

  واستمر الحكيم بإنتقاد السلطة العسكريّة المتمثلة بنظام السادات، ووقع في مواجهات عديدة مع النظام، وفي أحداث الإحتجاجت الطلابيّة كتب بيان المثقفين المؤيدين للحركة الطلابيّة.
  عاد الوعي للحكيم، ولكن للأسف ما زالت هناك طائفة كبيرة من المثقفين في زماننا هذا الذين استساغوا حالة اللا وعي التي يعيشونها وهم يلهثون وراء شعارات جميلة لا تعدو كونها ماكياجاً جميلاً لوجوه قبيحة، ولا يتحرّجون من مناقضة مبادئهم وتمجيد حكم الطغاة والوقوف ضد آمال الشعوب العريضة.
  من المؤسف أن بعض المثقفين لا زالوا حتى اليوم يتغنّون بالفكر الناصري دون أي محاولة لتطوير مفاهيم تلك الحقبة السياسية بل ودون الإعتراف بالفشل أو الوقوع في أخطاء جسيمة، وباتت شعارات الوطنيّة والقوميّة كلمات تلوكها الألسن دون أن تحمل أي معنى أو يكون لها أي وقع على سمع المواطن العربي.
لا أحد ينكر أن القوميّة العربية وحلم الوحدة العربية متأصل في قلب كل واحد فينا، وأن جمال عبد الناصر امتلك كاريزما خاصة كان لها الأثر الكبير في عودة الروح للجماهير العربيّة وإعادة الكرامة المسلوبة لهم، ولا أظن أن أحداً يشكك في إخلاص الرجل  وصدق نواياه، ولكن في المقابل علينا أن نعترف بالأخطاء الجسيمة التي وقع فيها وعدم الكفاءة في إدارة البلاد والتي أودت إلى نكسة عسكرية لا مثيل لها في التاريخ الحديث، بالإضافة إلى تكريسه لمبدأ الزعيم الأوحد الشمولي ، وللدولة البوليسية التي لا يوجد فيها أي مؤسسات مدنية أو أي تمثيل حقيقي للشعب.
  من المستغرب أن لا يتواجه المثقف مع جمهوره ويعترف بأخطائه الماضية، وبأنه كان سبباً في إيهام الناس بتحقيق أحلام عريضة ثبت عدم واقعيتها، وأن لا يعلن عن ندمه لإتخاذه موقف ما في الماضي ثبت له عدم صحته لاحقاً، ومن المُخجل الإصرار على تبنّي أفكار بالية انتهت صلاحيتها وثبت فشلها، في محاولة للإستمرار في محاولة "الإستهبال" على الشعب وكأنه يقول "عنزة ولو طارت" !!

وأنا هنا لا أتحدث بالطبع عن الوصوليين أو أولئك الذين يجيدون أسلوب "حُسن التعليل"، فهؤلاء يتنقلون ويغيرون مواقفهم كالضفدع الذي يتنقل على أطراف البحيرة، ودائماً ما تكون ردودهم جاهزة، حتى انهم يدّعون أنهم تعرّضوا للإكراه على إعلان مواقف تتنافى مع حقيقة أفكارهم، ويستطيعون بعد فترة من الزمن أن يعودوا عن عودتهم ويقنعوك بتلك الأفكار مرة أخرى، وشعارهم في الحياة "إكذب ثم إكذب حتى يصدقك الناس" !!

   موقف توفيق الحكيم وإن كان قد قوبل بإستهجان كبير حينها، لأنه جاء مُخالفاً لرغبات الجماهير ولقصر نظر بعض المثقفين الآخرين الذين عارضوه، إلا أنه إعترافٌ بالحق، وعدول عن خطأ تاريخي، والأهم من ذلك كله أنه شهادة للتاريخ، تُسجّل له، ويستحق عليها كل الإشادة والثناء. يقول الحكيم في مقدمة كتابه المذكور (( إن المهمة الكبرى لحامل القلم والفكر هي الكشف عن وجه الحقيقة )) وما أحوجنا في يومنا هذا لتكرار هذا الموقف من قبل سياسيين ومثقفين ومسؤولين، ساندوا الظلم، وأيّدوا بعض المتنفذّين، وساهموا في بيع الأوهام للشعوب والتجارة بأحلامهم، أما آن لكم أن تتعظوا وأن تتركوا للتاريخ فرصة للإبقاء على ماء وجهكم على صفحاته ؟! 



الثلاثاء، 31 مارس 2015

ماذا لو أفقت يوماً لتجد نفسك رئيساً للولايات المُتّحدة ؟!


 في علم الإدارة الحديثة يُستخدم نظام التقييم الشامل أو ما يُعرف ب "360-degree feedback" لتقييم الموظفين ولإعطاء صورة متكاملة عن أدائهم، ويعتمد هذا التقييم على جمع المعلومات من الجهات التي يتعامل معها هذا الموظف من زملاء وعملاء وجهات خارجية ومرؤوسين ورؤساء للوصول الى تقييم شامل يأخذ بالإعتبار كل الأبعاد الوظيفيّة الخاصة به ومقارنتها بواجباته ومسؤولياته والأهداف المرجوّة منه، ويعتبر هذا النظام من أفضل الأنظمة المستخدمة لتقييم الأفراد نظراً لأخذه بعين الإعتبار الجوانب التي قد تكون خافية على الإدارة، ولإعتماده على رؤية شاملة لكافة الأبعاد الوظيفية.

   من المُفيد كذلك، إستخدام هذا النظام في تقييم أفراد المجتمع وأدائهم بالنظر إلى علاقة هؤلاء الأفراد بمحيطهم الإجتماعي من البيت والحي الذي يسكنون به وعلاقاتهم بزملاء العمل داخل العمل وخارجه، بالإضافة إلى علاقاتهم بالمجتمع بشكل عام، ولطالما تفاجىْ الكثير منّا بجوانب خفيّة في شخصيّة أحد الزملاء أو المعارف سواء من الناحية الإيجابيّة أو السلبيّة، لأننا نعتمد في الغالب على التعميم في تقييمنا للشخص بناءّ على الزاوية التي نراه من خلالها، أو نتعامل معه من خلالها، وفي حالات كثيرة نُصدر أحكاماً عامة وشاملة عن جهلٍ منّا أو قلّة معرفة.

   لطالما تساءلت في داخلي، عن تأثير المحيط الخارجي في تكوين الشخصية وسلوك الأفراد، بمعنى آخر لو اختلفت الظروف التي أثّرت على نشأتنا هل سنكون على ما نحن عليه اليوم؟ لو تعرضنا لتجربة حياة مختلفة عمّا نعيشه في حاضرنا كيف سنتصرف وهل سنشبه ما نحن عليه اليوم؟ لو وضعت نفسك مكان أحد جنود النازيّة في الحرب العالميّة الثانيّة كيف ستتصرف، لو تعرّضت لما تعرض له الزنوج الأفارقة في أمريكا من عبوديّة وظلم وتعسّف ماذا كنت ستتصرف؟ تُرى لو كنت مكان أحد المسؤلين في عالمنا العربي الذين ننتقدهم ونتعرّض لهم باللوم كل صباح ومساء، ماذا كنت ستفعل وكيف ستتصرّف ؟

   بشكل عفوي وبسيط كنت أرد على هذه التساؤلات بأن الإنسان مُخيّر في هذه الحياة، وأساس تكليف البشر هو إمتلاكهم حريّة القرار والإرادة، وفي اللحظة التي تنتفي فيها حُريّة الإرادة والقرار تنتفي مشروعيّة التكليف والمحاسبة، ولعلّ هذا هو سبب رفض البشر لأي سلطة تفرض رأيها وتصادر حق الآخر في التعبير عن رأيه وإرادته. ولكن هذا الكلام يبقى نظريّاً وغير خاضع للتجربة العمليّة فأنا أحكم على الآخر من خلال تجربتي الشخصيّة ومن خلال معرفتي المكتسبة ودون أحاطتي التامّة بظروف ذلك الشخص.

  قرأت مؤخراً عن نظرية علميّة حديثة تُدعى نظرية "الأكوان المتوازيّة أو Parallel Universes"   حيث يسعى القائمون عليها إثبات أن الوجود عبارة عن عدّة أكوان متوازية في أبعاد مختلفة، أي أن هذه الأكوان متماثلة ولكنها مختلفة في الظروف الزمانيّة والمكانيّة، وهكذا تتواجد عدّة شخصيات للفرد الواحد في عدّة أكوان، فقد يكون في أحد الأكوان طالباً جامعياً في الخليج العربي وفي الثاني جندياً في المارينز، وفي الثالث مُدرّساً في دولة أفريقية وفي الرابع رئيس دولة في أوروبا مثلاً، بمعنى آخر قد يكون أحدنا بوذيّاً في أحد الأكوان وكاثوليكيّا في كون ثانٍ وغير مُتديّن في كونٍ آخر !

ويأمل العلماء في إثبات وجود كون ثانٍ موازٍ لهذا الكون في "بُعد ثالث"، وهذا بدوره سيكشف عن وجود أكوان أخرى في أبعاد إضافية، في كل منها مجرّة كمجرّتنا، ومجموعة شمسية فيها أرض موازية ومتماثلة مع هذه الأرض التي نعيش عليها، وهذا من شأنه الإجابة على أسئلة مُحيّرة بالفعل ولكنه سيؤدي إلى إثارة أسئلة أخرى أكثر غرابة وحيرة.

من الناحية النظرية البحتة من شأن وجود هذه الأكوان المتوازية والمختلفة في الظروف "الزمكانيّة" أن تعطينا تقييماً شاملاً ودقيقاً عن حقيقة كل واحد فينا وعن طبيعة شخصيتنا عند تعرضها لظروف مختلفة أوعند نشأتها في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية بل وفكرية مختلفة ايضا، لأنه يعطي الإمكانية لتواجد أبعاد مختلفة لذات الشخصيّة ويُضفي عليها تنوّع ظرفي معرفي ثقافي وتاريخي، وهذا يدفعنا في النهاية الى التساؤل عن قدرتنا الفعليّة على صياغة أقدارنا أو إتخاذ قرارات جوهريّة تعيد ترتيب حياتنا، وتعيد صياغة الظروف المحيطة بما يتوافق مع رغبتنا وإرادتنا.

في النهاية، تبقى هذه مجرد نظريّة تحتاج إلى الكثير من العمل والجهد للوصول إلى نتائج يمكن الإعتماد عليها ومن السابق لأوانه مناقشة مدى علميّة هذه النظرية أو مدى موافقتها للدين، ولكن بالنظر اليها من ناحية فلسفية فكرية بحتة وفي ضوء ما ذكرناه سابقاً عن أدوات تقييم الأفراد، وعن رغبتنا في إكتشاف حقيقة أنفسنا وعلاقتنا بالظروف المُحيطة، وعن السؤال المحيّر الذي يطاردنا، هل هذه الأرض التي نعيش عليها والتي لا تشكل سوى بقعة صغيرة من هذه المجرّة هي محور الكون كله، ولا حياة أخرى خارجها ؟! تبدو هذه النظريّة مثيرة بالفعل، ومُستفزّة لكثير من الأفكار الفلسفيّة التي لم تكن لتخطر على بال بشر.

أيمن أبولبن
28-3-2015


الأربعاء، 25 مارس 2015

الإيحاء الفكري ودوره في صياغة المشهد العربي



 

 
مع انطلاقة ثورات الربيع العربي بدأت الأنظمة العربية المُهدّدة بالسقوط باستخدام كافة الوسائل التي تفتّقت عنها عقول مستشاريها وزبانيّتها للحيول دون سقوطها أو تخلّيها عن الحُكم أو حتى السماح للقوى السياسيّة المختلفة مُشاركتها فيه، وكان من الواضح إستخدامها ورقة وسائل الإعلام والموالين لها من السياسيين والمثقفين ورموز الفن للترويج لأفكارها "المُضادة" ومهاجمة الربيع العربي والتشكيك فيه، وكان الهدف توجيه الأنظار بعيداً عن فشل هذه الأنظمة في قيادة البلاد واحتكارها للسلطة ومصادرة حقوق الشعوب الأساسيّة.

 

ففي سوريا مثلاً جاء الحديث عن وجود مؤامرة خارجية تُمهّد لإستعمار جديد للمنطقة، وكان مُتناغماً مع الحديث عن عمالة أنظمة الجوار وعن التضليل الإعلامي والتهويل من المظاهرات الشعبيّة أو حتى تلفيقها في بعض الأحيان، ووجدت هذه الأفكار تُربةً غنيّة لدى الكثيرين من المثقفين والسياسيين المولعين بنظرية المؤامرة والمتناقضين فكريّاً مع السياسة الأمريكيّة وسياسات دول الجوار، الخليجية منها على وجه الخصوص، والمتوجسين خيفةً من إنتعاش حركات الإسلام السياسي، خصوصاً مع تنامي الدور التركي في المنطقة، فتلقّفوا هذه الأفكار وبنوا عليها مواقفهم، بل إنهم طوّروها وأضافوا عليها الكثير ونشروها على طول وعرض المنطقة العربيّة.

 

أما في مصر، فبعد موجة ثورة يناير الكاسحة التي لم تُبقِ ولم تذر، إستطاعت الدولة العميقة من لمّ شملها من جديد ووضع استراتيجية بعيدة المدى لإستعادة الحُكم، واستخدمت ذات الوسائل (الإعلام ورموز المجتمع) لتمرير أفكارها عن إستبداد الإخوان في الحُكْم واستئثارهم به، وفشلهم في قيادة البلاد، بالإضافة الى الحديث عن الأمن القومي لمصر والإرهاب ودعم نظام الإخوان للجماعات المُسلّحة، وكما هو متوقّع نجحت هذه الأفكار في التغلغل الى أذهان الكثيرين من المثقفين والسياسيين الذين تبنوها وطوروها ثم نقلوها الى عامة الناس.

 

هناك فيلم أمريكي مهم يُعَد علامة فارقة في صناعة السينما الهوليووديّة تم إنتاجه عام 2010 ويحمل اسم (Inception ) -أفضّل شخصياً إستخدام "الإيحاء" لترجمة العنوان إلى العربيّة . ما يُميّز الفيلم إضافةً إلى الإبداع في استخدام المؤثرات البصريّة هو الفكرة الأساسيّة للقصّة، والمبنيّة على قدرة المُختصين على زرع فكرة ما في أحلام أحد الأشخاص ليتبنّاها عقله الباطن بعد ذلك، فتنمو وتزدهر وتنتقل إلى منطقة الوعي وتبدأ من فورها في التأثير على سلوك وتصرفات هذا الشخص وقراراته في الحياة، حتى أن هذا الشخص عندما يتواجه مع حقيقة عدم واقعيّة هذه الفكرة أو عدم صحتها وتعارضها مع المنطق بل ومن الممكن تعارضها مع مبادئه الشخصيّة، يقع في دائرة الشك ولا يعود قادراً على التمييز بين الحقيقة والوهم !

 

لا يتطلب الموضوع سوى الإيحاء بفكرة بسيطة فقط، والباقي يُترك للشخص نفسه، فعقله كفيل بأن ينسج أفكاراً أخرى أكثر تعقيداً حول هذه الفكرة لتصبح جزءاً من شبكة متكاملة من الأفكار المترابطة والمتسلسلة التي تدعم بعضها البعض، وسرعان ما تتقاطع مع عقله وخياله وذاكرته، فتصبح جزءاً لا يتجزّأ من فكره وعقيدته.

 

طيفُ كبير من السياسيين والمثقفين في عالمنا العربي اليوم، الذين لا أشك شخصياً في صدق نواياهم وفي مواقفهم النبيلة تجاه الوطن العربي ووقوفهم ضد أطماع إسرائيل في المنطقة، فقدوا البوصلة ولم يعد بإمكانهم العودة إلى الواقع من جديد، ولا التمييز بين الأسطورة والخيال من جهة والواقع من جهة أخرى، فهم عاجزون عن التركيز على القضية الأساسيّة لأحداث الربيع العربي، وهي حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم شرعيّة الأنظمة الحاكمة وفشلها في تحقيق أي إنجاز يُذكر منذ استقلال الدول العربية وحتى الآن.

 

الحديث عن سوريا اليوم في الصالونات السياسيّة والثقافيّة لا يتعلق بسوريا أو بالشعب السوري، لقد تم التغاضي عن أربعة عقود من الفشل الذريع لحزب البعث في النهضة بالبلاد، وتم تجاوز تاريخ مليء بالمآسي والمجازر في حق الشعب السوري، وتم تجاهل عدم شرعيّة بشار الأسد بالحكم وكل ذلك في سبيل مقاومة "الخريف العربي" أو مشروع "الفوضى الخلاّقة" الأمريكي !! لقد طغت هذه الفكرة التي تم زرعها في أذهان الناس على القضية الأساسية وهي الظلم الواقع على الشعب السوري وشرعيّة ثورته. لقد آمن هؤلاء يأن الشعب السوري يجب أن يُقدّم قرباناً في سبيل عدم إنهيار حلف المقاومة والممانعة !

 

أمّا على الساحة المصريّة فقد تم تجاهل شرعيّة نظام مرسي وحقيقة أنه أول رئيس مدني مُنتخب يمثل الثورة المصريّة، وتم تغييب فكرة المُعارضة بإستخدام الوسائل الديمقراطيّة، وتجاهل أنّ الإنقلاب العسكري لن يّنجب إلّا ديكتاتوراّ جديداً، ولن تكون نتيجته سوى تّعسّف جديد ومجازر ومذابح بحق المعارضة، وسيعيد البلاد إلى حقبة تكميم الأفواه، وإقصاء الآخر. لقد طغت جميع الأفكار السلبيّة التي زرعها الحرس القديم على أذهان الناس وباتوا الآن لا يأتون على ذكر الإنقلاب العسكري أو التآمر على رئيس شرعي مُنتخب، بل إن الطبقة الغالبة في مصر اليوم تمارس الإرهاب الفكري والحُكم البوليسي بإسم التفويض الشعبي وشرعيّة الشارع !!

 

لقد تحولت طموحات الشباب العربي في تحقيق ما يصبو اليه من حرية وعدالة ومساواة وتغيير، الى كوابيس مُخيفة، بسبب تشبّث الأنظمة الحاكمة بالكرسي وبسبب الأفكار التي تم زرعها في أذهان ثلّة من المثقفين والسياسيين. وبدلاً من تحريك المياه الراكدة أصبحنا نبحث عن الوهم لنعيش فيه هرباً من واقعنا، فننقاد بسهولة إلى خدعة المقاومة والممانعة و نبتلع كذبة "صباع الكفتة"!!.

 

يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (( إن الكذب والخيال ضروريان للحياة أكثر من الحقيقة، بل إن الحقيقة تصبح قاتلة إذا ما اقترب منها المرء أكثر مما ينبغي، أو قبل الأوان ))

 

 

أيمن أبولبن
21-3-2015