والسؤال الذي يطرح نفسه هل هذا يدل على جهل وغباء مُشرّعي هذا التنظيم، وما يقتضيه بالضرورة من جهل قيادة التنظيم وأفراده، أم أنهم يفعلون هذا على علم وبيّنة ؟ في كلتا الحالتين نحن أمام طامةً كبرى بكل المقاييس، فإذا كنّا أمام تنظيم يجتزىءُ من النصوص الدينيّة ما يناسبه، ويعمل على تطبيق الشريعة بمنطق الإنتقائيّة، دون وعي وإدراك لمجمل التشريع الإسلامي وروحه، فلَعَمْري إنها لمصيبة، وإن كنّا أمام تنظيم ينفّذ أجندة خاصة ويغسل أدمغة تابعيه ليقودهم إلى إثارة النزعات الطائفية وإشعال الحروب وتخريب البلاد، وإرهاب البشر، فلَعَمْري إنها لمصيبةٌ أعظم!
ألا يمكننا القول، أن هذا العمل الوحشي والطريقة "الهوليودية" التي تم تصوير الحادثة بها، هي محاولة لِلَصْق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين وترسيخ هذه الفكرة في ذهن العالم أجمع، بل ومحاولة تأصيلها وإيجاد نصوص دينية مزعومة تدعمها ؟! هي بالتأكيد كذلك.
لن أبالغ إذا قلت أن نسبة كبيرة جداً من سكان العالم وصل لهم هذا الخبر وتناقلوه وربطوه في وعيهم أو في عقلهم الباطن بالإسلام والمسلمين، وهذا ما يؤكد ما قلناه في مقالات سابقة عن الشبهات حول نشأة وأسباب تمدّد داعش المُفاجىء وتواطىء أجهزة المخابرات في أمريكا وبريطانيا وإسرائيل، مع الأنظمة الديكتاتورية في العراق وسوريا لرعاية هذا التنظيم وإستغلال جهوده في تحقيق مصالح مشتركة "إلى حين".
بالنسبة لي، كانت الرسالة واضحة من هذه العملية، وهي الفصل بين "فُسْطاطين" لا مجال للوسطيّة بينهما إما "مع" أو "ضد"، إما أن تقول أن هذا الطيّار قد شارك في العمليات الحربية ضد التنظيم ويستحق ما حصل به، بل ويمكن الذهاب إلى أبعد من هذا إلى حد إتهامه بقصف المدنيين الأبرياء والأطفال كما تضمّن الشريط المُصوّر، وإما أن تكفر بكل ما يؤمن به هؤلاء ! وبغض النظر عن أي فُسطاطٍ تختار، فإن الدواعش وأخواتها هم المُستفيدون، لأن قوى الظلام تعاني دوماً من عمى ألوان خاص بها، فهي لا ترى سوى لونين هما الأبيض والأسود، ويجهلون جمال ألوان الطيف السبعة. هم لا يعترفون بالتنّوع والإختلاف، أو بالقواسم المُشتركة، والتعايش السلمي وتقبّل الآخر، إما ان تكون مثلهم قاتلاً مُجرماً حانقاً على هذه الدنيا ومن فيها، وإما أن تكون كافراً ومُرتداً وموالياً لإعداء الله.
ولن يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن دواعي هذه الحادثة ستكون كارثيّة على جميع المتديّنين والمعتدلين ليس فقط من قبل الدواعش وأخواتها، بل سيمتد تأثير هذا الفعل الى بلادنا العربية ومنها إلى الغرب، و سيتم نصب العداء لكل ما هو إسلامي ومتديّن بحجّة مكافحة الإرهاب وستكون هذه فرصة لكل الأطراف التي تسعى إلى إقصاء الإسلام السياسي و الأحزاب الدينية البراغماتيّة والوسطيّة من الساحة السياسية، وجميع البوادر والمؤشرات التي صدرت في الساعات القليلة الماضية تشير إلى التعميم المُبالغ فيه، ووضع كل الأحزاب الدينيّة في سلّة واحدة.
إذا أردنا أن ننتصر على قوى الظلام، علينا أن نعي جيداً منطقهم "الإقصائي" وأن لا ندعهم يدفعوا بنا للوقوع في مستنقع الإستقطاب وخيار "مع أو ضد" هناك دائماً مساحة للإختلاف والتباين، وهناك فضاءٌ يتسع لي ولك وللآخرين، بعيداً عن التطرف ومحاولات الإقصاء. إن أفضل طريقة لمواجهة التطرّف هي الوسطيّة والإعتدال، وهو ما سيُعرّي هذه الجماعات ويظهرها على حقيقتها، وصدق رسول الله الكريم حين قال : (يأتي على النَّاسِ زمانٌ ، الصَّابرُ فيهم على دينِه ، كالقابضِ على الجَمرِ) ونحن اليوم أمام إختبار صعب، إما أن نثبت ونحافظ على الإسلام المعتدل وإما أن نسقط في التطرّف الإرهابي أو التطرّف المُضاد له.
لا بد من التأكيد مجدداً أن مكافحة الإرهاب تبدأ بتجفيف منابع التسلّط والإستبداد في المنطقة، والتوقف عن إستخدام نغمة التخوين في حق الآخرين ومصادرة حقهم في المشاركة السياسية، وعلينا إثراء النقاش والحوار الحضاري، لتغيير المفاهيم الخاطئة والهدّامة في مجتمعاتنا، والإبتعاد عن نغمة الطائفيّة والعنصريّة أو الحزبيّة السياسيّة. وفي النهاية، فإن التطرف والإرهاب مُمثلاً بداعش وأخواتها، لا يختلف عن تطرّف وإرهاب الأنظمة الإستبداديّة في المنطقة، فكلّهم وجوه لعملة واحدة.
ولعلّ من المُفيد تسليط الضوء على تقاعس دول المنطقة وجامعة الدول العربية بالإضافة إلى المجتمع الدولي وتقصيرهم بالإضطلاع بواجبهم تجاه الشعوب العربية التي تظاهرت وطالبت بالحريّة والعيش الكريم، ولم تلقَ من حكوماتها وأنظمتها سوى الردع بالقوة، والإرهاب والتطرّف والوحشيّة، إذ وقف العالمُ مُتفرّجاً، تاركاً هذه الشعوب في مواجهة مصيرها المحتوم إما الخنوع والخضوع وإما التطرّف وإستخدام القوة. كان من الواجب أن يكون التحالف قد تشكّل قبل 3 أعوام من الآن لمواجهة طغيان الأنظمة، بدلاً من محاولة القضاء على التطرّف، مع الإبقاء على الداء والمُسبّب، كان بالإمكان أن يكون هذا التحالف عربيّا مُسلماً خالصاً، لو ساندنا المُقترح التركي بفرض حظر جوي على طيران الأسد، وإقامة مناطق عازلة على الحدود، وضبط تدفق الأسلحة للنظام والجماعات المتطرفة على حد سواء.
علينا الآن الإتحاد في مواجهة التطرّف والإرهاب، وإعادة النظر في الأسباب التي أوجدت هذه التنظيمات، ومعالجتها، والعمل سريعاً على تمكين الشعوب من نيل حريتها وإستقلالية قرارها، مع التركيز على تغذية الفكر الوسطي المعتدل، بعيداً عن التشدّد، فمعركتنا ليست عسكريّة فقط، بل فكريّة في المقام الأول، ولا مجال للتردّد والتشكيك في خروج هذه التنظيمات عن مقاصد الشريعة وغلوّها، أو محاولة تبرير جرائمها لأن في ذلك إساءةً للإسلام ولنبي هذه الأمة الذي يدّعي هؤلاء أنهم ينصروه وينفذّوا تعاليمه.
الإصرار على جزئية العمل العسكري ضد داعش مع إغفال الصورة الكاملة التي تحدثنا عنها، قد يقودنا للقضاء على داعش ولكننا سنجد أنفسنا في مواجهة "باحش" أو "ماعص" وربما "رافس" !
أيمن أبولبن
4-2-2015