الأحد، 9 نوفمبر 2014

أخاف من الوحدة

أخاف من الوحدة


عشرُ دقائقَ من الوحدة، كافيةٌ كي تُفتحَ أبواب ذكريات الماضي وتُعيد إلينا كلَّ ذلك الحنين الذي إفتقدناه، لتتدفّقَ الذكرياتُ كسيلٍ  عارمٍ فتغطي الوجود وتطمس معالم الزمان والمكان، فنتوه ونغرق في أعماق الذكريات الموجعة والأليمة والمحزنة معاً.

   عشر دقائق أمضيها في غرفة إنتظار الطبيب أو لحظة غياب شاردة من ضجيج العمل في وقت الذروة من النهار، أو تلك الدقائق القليلة التي تسبق النوم، كافيةٌ كي أستعيد شوقي ولهفي وحنيني لمن فقدتهم من الأحبّة ولم أتصالحُ بعدُ مع قَدَر الغياب فيهم، رغم إيماني ورغم قناعتي بأن عجلة الحياة لا بُدّ وأن تدور، ولكن النفس لتحزن رغم أنف القناعات الداخليّة ، والعين لتدمع ، والقلب يكادُ يتوقف في لحظةٍ هاربةٍ من الزمن ، كطفلة تلاحق الفراشات في الحقل، وتطلق العنان لشعرها ليداعب نسيم الهواء ، وهي تتماهى مع جناحي الفراشة.

   ومضاتٌ قليلة تأتينا كأنها إتصالٌ طارىء من عالمٍ خارجي غامض، يسرقنا من لحظتنا الراهنة ثم ما يلبث أن يعيدنا لها ثانية، دون ان يقطع خط الإتصال، فنبقى مُعلّقين بين الوجود واللاوجود.

   لم يكن التعذيب الجسدي هو الكابوس الذي يخشاه المساجين، بل كانت العُزلة هي أعظم كوابيسهم، فالعُزلة قاتلةٌ كما يقولون، فهي تفتكُ بكل ما هو إنسانيٌ فينا، وتلاحق الطُمأنينة فينا كمن يُطارد اّلأشباح.

كم عاش سيدنا آدم قبل خلق حواء ؟! ليس مُهماً أن نعرف، فالتاريخ البشري بدأ بإجتماع آدم وحواء، وأما العُزلةُ فلا تُحسبُ من أعمارنا، لأنها تُنقصها ولا تزيدها.

   أخاف من العُزلة، وأخاف من الوحدة ولو للحظات.

أيمن أبولبن

9-11-2014

الأحد، 26 أكتوبر 2014

في وداع فاطمة

كتبت هذه السطور قبل أيام قليلة من رحيل الوالدة

في وداع فاطمة

     تقول الأساطير القديمة أن الأرواح الشريرة تبدأ نشاطها مع غروب الشمس لتجوب البلاد وتثير فيها الفزع وتدب في النفوس مشاعر الخوف، وما أن يبزغ الفجر حتى تنحسر هذه الأرواح الشريرة وتعود الى مخابئها من جديد، فيكون صياح الديك إيذاناً ببزوغ فجر يوم  جديد، ونهار تعمه السلام والمحبة.

   عندما كنت صغيراً لم أكن أعلم بوجود هذه الخُرافة، ولكني كنت أشعر بضيق شديد حين يحل الظلام، ولهذا كنت أحرص دوماً على أن أستلقي في الفراش وأغط في النوم قبل أخوتي، فوجودهم يقظين من حولي كان يجعلني أشعر بطمأنينة وراحة بال تساعدني كثيراً في النوم المبكر و "الصحي"، وكان هاجسي الوحيد وشغلي الشاغل في كل ليلة أن لا أكون آخر المستيقظين في المنزل !!

   ولكن على عكس الخرافة، لم يكن صوت الديك ما يشعرني بالأمان والطمأنينة، بل كان صوت حفيف ثياب أمي، وطقطقة خطواتها الخافت في الفجر الباكر، والجلبة التي تحدثها في البيت "على استحياء" وهي تجهز لنا أغراض المدرسة، "تأخرت على المدرسة يمّه"  كانت هذه العبارة وحدها تجعلني أبدأ نهاري متّقداً متسلحاً بكل الأمان الموجود في العالم، وجودها حولي، نَفَسُها، رائحتها في البيت ، صوتها، لسانها الذي يلهج بالدعاء ونحن على أعتاب مغادرة المنزل، ترحيبها الحار لنا عند العودة، وسؤالها لكل واحد فينا عن يومه ودروسه وواجباته، وصاياها لنا بمراعاة دروسنا، والمواظبة على الصلاة، وحسن تعاملنا فيما بيننا، وطاعة والدي، كان هذا كله كفيلاً بأن أمضي يومي في سلام  ومحبة وطمأنينة.

إذا كانت كل فتاة بأبيها معجبة، فكل فتىً بأمه مُعجبُ، كنت أشعر منذ نعومة أظفاري بأني طفلها المُدلّل، الطفل المفضل لديها، ولكني مع مرور الزمن أدركتُ أنها لم تكن لتُفاضل بين أبنائها، ولكنها كانت قادرة وبطريقة عجيبة أن تُشعر كل واحد منّا بأنه المُفضل لديها، وكانت قادرةً أيضاً أن تُثبت لوالدي أن معزّته تفوق معزّتنا جميعاً، لم يكن هذا تكلفاً أو تصنعاً منها بقدر ما كان هبة ربانية، ومنحة آلهية.

   لم أرَ في حياتي معنىً مُتجسداً للتضحية من أجل الغير الا فيها، ولم أدرك معنى الإيثار الا من خلال سيرتها، كانت لي المثل الأعلى في كل شيء يخص المرأة، لقد زرعت فينا بذرة التديّن السمح، والأخلاق الحميدة التي أكتسبتها من جدي "عالم الأزهر" وترجمت هذا التدين الى نموذج حي واقعي من خلال علاقاتها بالمحيطين بها،

  والدتي ترقد اليوم على سرير الشفاء، وقد أتمّت رسالتها في الحياة على أتم وجه، ونجد أنفسنا عاجزين عن رد جزء من إحسانها لنا رغم كل محاولاتنا لفعل ذلك، أرى والدتي كل يوم وهي تتألم بصمت، تحاول أن تغادر هذه الحياة بشموخٍ وأنفة، ونحن من حولها نشعر أن المرض يدبّ فينا نحن، وأن الشيخوخة البادية على ملامحها انعسكت شيخوخة مُبكرة فينا، نشعر أننا فقدنا شيئاً ما بداخلنا، وأن جزءاً عميقاً في داخلنا قد انكسر.

  قبل أشهر قليلة، انتصف عقدي الرابع من العمر، وعلّقت يومها قائلاً –وأنا صادقٌ فيما أقول- " أشعر اليوم بأني بلغت الخامسة والثلاثين" ولكني خلال الأيام القليلة الماضية شعرتُ بأني اختزلتُ عشرة أعوام من عمري دفعة واحدة، هرِمتُ يا أمي، وفي غيابك يا أمي عدتُ الى قلقي وخوفي، أتقلب في نومي فزعاً ولا أجد من التجأ اليه، وأصحو كل يوم وانا بإنتظار صوتك يوقظني ويبث فيّ الأمل من جديد.

  أتعلمين يا أمي أني أخاف موتك أكثر منك ؟! هل ستغادريننا حقا؟!


 أيمن أبولبن
17-10-2014

الخميس، 9 أكتوبر 2014

الحرب على داعش والشكوك المتزايدة



     تشير تسريبات "سنودن" بكل وضوح وصراحة أن تنظيم الدولة الاسلامية ما هو الا صنيعة مشتركة للمخابرات الأمريكية والبريطانية والاسرائيلية، فيما تبدو الأهداف من زرع هذا التنظيم في قلب الشرق الأوسط عديدة ومتنوعة ولا تقتصر على إشعال الاقتتال الطائفي في المنطقة، فيما تشير التسريبات الى أن خليفة التنظيم "أبو بكر البغدادي" قد تلقّى تدريبات مُكثّفة على مدار عام من قبل الموساد لتمكينه من تنفيذ مهمته التي أُطلق عليها اسم "عُش الدبابير" نسبة إلى المنظمة التي ستسقطب المتطرفين الاسلاميين من جميع دول العالم.

  وبالعودة الى الظروف الغامضة التي رافقت نشوء هذه الجماعة المتطرفة، وتسلسل الأحداث على أرض الواقع، نجد أن هذا التنظيم لم يُفلح في تحقيق أي من الأهداف التي ادّعى أنه يناضل من أجلها، بل على العكس تماماً كانت النتائج تصب دائماً في مصلحة الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة وبالتالي تصب في مصلحة اسرائيل، فبعد سلسلة من التظاهرات السلمية للقبائل والعشائر السُنيّة في العراق التي عانت الأمرّين من جبروت المالكي وتعنّته الطائفي، وبعد أن بات من الواضح أن الأمور فلتت من قبضة المالكي، وأن رياح التغيير قادمة لا محالة، أخذ تنظيم داعش زمام المبادرة وقام بمصادرة إرادة القبائل السنية وتصدّرَ الأحداث لمواجهة المالكي "عسكرياً" وبهذا انقلبت الأمور 180 درجة، خسرت العشائر السنيّة ورقة الثورة السلمية، وخسرت تأييد المتعاطفين من حولها، ثم وجدت نفسها محصورةً في خندق داعش والتطرف دون أن يكون لها باقة ولا بعير، وعلى الجهة المُقابلة قام الغرب بتسليح الجيش العراقي ليزداد قوةً في مواجهة داعش، كما أعطى الضوء الأخضر لإيران "وحلفائها" للتدخل عسكرياً في العراق والحد من خطورة داعش ، ليس هذا فحسب بل لاقت هذه الخطوات إستحساناً من دول وشعوب المنطقة على حد سواء، وبهذا تغلغل نفوذ إيران والجماعات الشيعية المتطرفة في العراق، وأزدادا الأمر سوءاً على الجماعات السنيّة.

  خلال الشهور الماضية تم إمداد الأكراد وقوات البشمركة بالعتاد والعدّة على مرأى ومسمع الجميع، دون أن يعترض أحد، ودون أن تثور ثائرة المنظمات الدولية، أومجلس الشيوخ الأمريكي، وأحزاب المعارضة هنا وهناك، الا يتبادر للأذهان سؤالٌ مُحير، منذ متى تقوم أمريكا بتزويد ميليشيات مًسلّحة "غير نظامية" بالسلاح علناً وعلى رؤوس الأشهاد، دون إعتراض أو حتى إستفسار ؟!

  أما في سوريا، ففي الوقت الذي كانت فيه الثورة السورية تحقق مكاسب على الأرض، وتُنشىء علاقات "حُسن جوار" مع المدنيين والأهالي في المدن والقُرى المًحررة، ظهرت الجماعات الإرهابية وعلى رأسها داعش لتصبح وبالاً على السوريين وتذيقهم أشد أنواع التنكيل والتعذيب مما أنساهم مرارة الواقع الذي عاشوه تحت حكم الأسد، وأدى في النهاية الى كُفرهم بالثورة السورية ولعنهم اليوم الذي انطلقت فيه شرارة الربيع العربي، خسرت الثورة السورية الكثير من التأييد والتعاطف بسبب داعش، وحقق النظام الكثير من النقاط الحاسمة على مستوى المجتمع الدولي والسياسة الخارجية، ليس هذا فحسب بل قامت بعض الفصائل التي انشقت عن الجيش السوري بإعادة المناطق التي تسيطر عليها للجيش السوري من جديد -بعد التعهد بالعفو عنهم-، حتى لا تسقط هذه المناطق في يد داعش !

  ومن المثير للجدل والدهشة، ما يحصل من تنسيق أمني بين قوات النظام السوري وقوات داعش، ومن الأمثلة الأكثر شيوعاً على ذلك، حين تخوض القوات النظامية معارك ضارية مع الجيش الحر، تبقى داعش خارج دائرة الصراع، وما أن تنسحب القوات السورية من منطقة المعارك، حتى تدخلها داعش، لتحرق الأخضر واليابس وتروّع الأهالي وتشردهم وتدحر الجيش الحر، وهكذا دواليك !

  من أطرف الأخبار التي سمعتها، أن داعش تبيع النفط السوري والغاز من المناطق التي تسيطر عليها للحكومة السورية، وتقوم الحكومة السورية بدفع أثمان هذا النفط عبر وسطاء، أو عبر إتفاقات سريّة مع التنظيم مقابل خدمات عسكرية ميدانية مُتبادلة بين الطرفين. وهكذا تتحقق مصلحة مشتركة بين الطرفين من وجهة نظري، داعش تُزوّد الحكومة السورية بالبترول حتى تستمر في مزاولة أعمالها، والحكومة السورية تموّل داعش للقضاء على ما تبقّى من الثورة السورية !

    بالنظر الى ما تُحقّقه داعش على الأرض، يَسهُل علينا أن نُدرك الأهداف من زرع هذا التنظيم، ومعرفة من المُستفيد من وجود هذا التنظيم، ومن ثم نستطيع أن ندرك، أن الحرب المزعومة على هذا "البُعبُع" ما هي الا حصاد لما تم زرعه، ومحاولة قطف الثمار التي نضجت كما قال الحجاج : (اني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها)، فأمريكا اليوم تُعلنها صراحةً أنها تدعم المعارضة المعتدلة في سوريا وأنها لن تسمح بقيام أي تنظيم أو أي دولة تُهدد حلفاءها في المنطقة "وعلى رأسهم اسرائيل" فأمريكا هي من تحدد ما هو تعريف الارهاب ومن هو الارهابي المتطرف، ومن يمثل الطرف المُعتدل كذلك، أما أهداف الحرب على داعش فسوف تتّسع لتشمل كل ما هو ارهابي من وجهة نظر أمريكا، في تمهيد لانهاء الصراع في سوريا واقامة نظام ديمقراطي مدني "شكلي" تشترك فيه كل الأطياف "بما فيها حزب البعث" ولا يكون فيه خاسر والأهم أن لا يكون هناك أي مُنتصر.

  في الحقيقة لا تُقلقني الحرب على الارهاب، بقدر ما يُقلقني أن الشعب السوري لم يستطع أن ينتصر في معركته لا سلمياً ولا عسكرياً -لأسباب خارجة عن ارادته-، وأن السبيل الوحيد لتغيير نظام الحكم في البلد هو لبس عباءة الأمريكان، وإن حصل هذا فسيكون المسمار الأخير في نعش الربيع العربي،
  
أيمن أبولبن

30-09-2014


الأربعاء، 1 أكتوبر 2014

ماذا بقي من نظرية المؤامرة ؟!



  ما أن انطلقت شرارة الربيع العربي وانتقلت من تونس الى مصر ثم الى ليبيا واليمن، حتى بادرتنا ثلّة من المثقفين بالربط بين نشأة الثورات ومخطط امبريالي صهيوني لاعادة تقسيم المنطقة من جديد وهو ما يُعرف بنظرية المؤامرة، وقام بعض هؤلاء المثقفين بنشر تقارير ومقالات مُطوّلة بالاضافة الى العديد من الكتب التي تتحدث بالتفصيل عن أركان هذه المؤامرة، ولعل أشهرها كتاب الفيلسوف التونسي ميزري حداد " الوجه المخفي للثورة التونسية" .

   وأعتمد أصحاب نظرية المؤامرة على قراءة الأحداث وتحليلها من وجهة نظر "المتآمر عليه" وربط هذه الأحداث مع وقائع تاريخية قديمة، للوصول الى نتيجة مفادها أن الثورات العربية ليست عفويّة وبريئة كما ندّعي نحن، فالولايات المتحدة قامت بالتخطيط لهذه الأحداث ودرّبت مجموعة من الشبان على كيفية احداث فوضى عارمة في البلاد ونشر ها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي مدعومين بتغطية اعلامية مكثفة من قنوات فضائية تدور في فلك المؤامرة، وبمجرد اندلاع أحداث الفوضى تقوم الادارة الامريكية باستغلال الوضع لقلب نظام الحكم بالتعاون مع حركة الاخوان المسلمين، وصولاً الى تمكينهم من الحُكم وبسط نفوذهم في المنطقة، ليقوموا بتطبيق الحكم الاسلامي المدني ظاهرياً مستغلين الشعبيّة العارمة التي يحظون بها، بينما يقومون بتنفيذ الأجندة الغربية والتعاون المطلق مع الغرب واسرائيل من خلف الستار، للقضاء على آخر معاقل "المُقاومة" في المنطقة وتحجيم دور ايران في المنطقة، مستفيدين من دعم دول الخليج.

   لا شك بأن هذه النظرية لقت رواجاً كبيرا في صفوف المثقفين والبسطاء على حد سواء ، لا سيما أن أسماء كبيرة تبنّت هذه النظرية وأنبرت للترويج لها، بل أن محطات فضائية قد تخصّصت في تقديم برامج داعمة للنظرية واستضافة المُروّجين لها، عدا عن دفاع الأنظمة "المُتهالكة" عن نفسها بتبنّي هذه النظرية والتحذير من المستقبل الأسود اذا ما نجحت الثورات العربية.

   ويتبادر الى أذهاننا جميعاً سؤالٌ من شأنه نسف نظرية المؤامرة من أساسها : هل كان بالامكان نجاح الانتفاضة العربية دون أسباب موجبة لها ؟! هل بالامكان تنفيذ هذه المؤامرة لاسقاط حكومة النرويج مثلاً أو السويد ؟! عدا عن أن التوافق المُفترض بين أنظمة الغرب والنظام الاسلامي المُزمع انشاؤه لا يُمكن التسليم به لا من ناحية المنطق ولا من قراءة التاريخ العميقة كما تدّعي هذه النظرية.

   لا أريد أن اخوض جدالاً بيزنطياً حول صحة نظرية المؤامرة، ولكني أريد اثبات عكسها من خلال الوقائع على الأرض، بادء ذي بدء اندحرت حركة الاخوان المسلمين وتم عزلها عن السلطة في أكبر بلد عربي "مصر"، ولم يعد لها أي تأثير أو قوة ضاربة في الحياة السياسية، لم تقم الولايات المتحدة بالتصدي للثورة المُضادة وأكتفت بتصريحات خجولة ، ثم أعلنت أن مرسي لم يكن ديمقراطياً وأن الصناديق وحدها لا تضمن شرعية بقائه في السلطة، ثم أصدرت بياناً تقول فيه أنها بحاجة الى مزيد من الوقت كي تقرر ما اذا كانت ثورة 30 يونيو هي ثورة أم انقلاب عسكري، وقد مضى ما يزيد عن عام كامل لم نسمع خلاله أي حديث يتطرق للنتائج النهائية التي توصلت لها الادارة الامريكية، ولكننا على كل حال نرى هذه النتائج على الأرض.

   قامت دول الخليج – ما عدا قطر – بمباركة ازاحة الاخوان عن الحكم، ومنها من أعلن الحرب على الحركة، على عكس ما هو مخطط له حسب نظرية المؤامرة،

  ولو نظرنا الى سوريا، لوجدنا أن النظام السوري استطاع دحر المؤامرة " الكونية" بل وعزّز من نفوذه في المنطقة، بانضمام ميليشيات حزب الله وميليشيات ايرانية الى ساحة المعركة، عدا عن الدعم الروسي السياسي والعسكري واللوجستي، واذا نظرنا الى ايران ودورها في المنطقة لوجدنا أن دورها تعاظم بعد الانتفاضة العربية بل أنها تقرّبت من الغرب وأبرمت صفقات تفاهم مع اوروبا وامريكا، وتم تخفيف اجراءات الحظر عليها، وكل هذا يسير في عكس المخطط الذي يتحدثون عنه، فعن أي مؤامرة يتحدثون ؟!

  مُبارك عاد الى الحكم من جديد، بشكل "مودرن" لطيف وحنون، ونظام المقاومة والممانعة ما زال يمارس مقاومته وممانعته "على شعبه الأعزل بالطبع"، بينما حدوده مع العدو الصهيوني ما زالت آمنة، والمد الشيعي في المنطقة في أوجه، وما زال يصر على انتهاج العنصرية الطائفية الفجّة ضد السُنّة ، من ايران الى لبنان مروراً بالعراق وسوريا، فعن أي مؤامرة يتحدثون ؟

   يُذكّرني أصحاب نظرية المؤامرة بقصة طريفة رواها لي أحد الأصدقاء المحامين، يقول: في واحدة من القضايا قدّم الادعاء العام أحد شهود الاثبات ضد موكلي، وعند بدء الاستجواب في المحكمة تفاجأت من الذاكرة القوية التي يتمتع بها هذا الشاهد، فقد كان يروي الأحداث بتسلسل زمني مكاني مُتقن، ثم يستخدم المنطق والحجّة لربط الأحداث واثبات التهمة على موكلي، وعندما أتاح لي القاضي سؤال الشاهد، فكرتُ مليّاً بالطريقة المُثلى في كيفية دحض شهادته، ثم ومضت في عقلي فكرة ما، فتوجهت له بسؤال أثار استغراب مَنْ في القاعة، قلت له: ما اليوم من أيام الأسبوع؟ فأظهر استغرابه ثم ما لبث أن أجاب، أردفت سريعاً وما هو تاريخ اليوم؟، تلعثم قليلاً ثم أجاب، رفعت من حدة صوتي وقلت له يوم السبت الماضي كم صادف من التاريخ؟ شعرت حينها أنه أُسقط من يده، فاستمرّيت في استجوابه بنفس الطريقة، اذا كان تاريخ اليوم هو كذا فكم يكون تاريخ الجمعة القادم؟ أطبق عليه الصمت ولم ينبس ببنت شفة، وقفت حينها وسط القاعة وقلت القولة المشهورة ( سيادة القاضي لقد أُمليت على الشاهد شهادته) كسب صديقي قضيته وخرج المتهم بريئاً،

  العجيب أن تجربتي في النقاش مع أصحاب نظرية المؤامرة تشبه الى حد بعيد تجربة صديقي مع هذا الشاهد، كنت أستغرب من الوقائع التاريخية المدعمة بالحقائق التي يسردونها ، وبكمية الدلائل التي يملكونها ، عدا عن ايمانهم المُطلق في كل ما ينطقون به، وبعد أن أقوم بتحليل قرائنهم وأدلتهم والرد عليها ثم أواجههم بالمنطق والعقل ، وفوق هذا كله بالواقع وبالأحداث على الأرض ، يصمتون ولا يجيبون ولكنهم يزدادون عناداً !!

   يا أصحاب نظرية المؤامرة، أفيقوا، لقد أُمليت عليكم شهادتكم من حيث لا تعلمون، ان المؤامرة الحقيقية هي ما ترون، لا ما تظنون !! فالمظاهرات السلمية تحولت الى فوضى عبثية بكل معنى الكلمة، وطواغيت المنطقة ازدادوا نفوذاً بل ازدادوا عدداً، ووقعت شعوب المنطقة بين فكّي كمّاشة، حكم الطغاة من جهة وبطش الجماعات الارهابية من جهة أخرى، لقد كُمّمت الأفواه من جديد، وسكتت كل الشعارات المُطالبة بالحرية والعدالة والمساواة، والربيع العربي بريء من كل هذا براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

أيمن أبولبن

6-9-2014

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

ثورات الربيع العربي وأزمة التوقعات المتزايدة



     أثناء حكم الرئيس الأمريكي "جورج كيندي" في الستينات من القرن الماضي، أُعطيت الأقليات العرقية في الولايات المتحدة حقوقاً أكثر من أي وقت مضى، بعد رحلة كفاح طويلة ضد قوانين التمييز والعنصرية، ونتيجة لذلك طفت على السطح حالات من الغضب والاضطرابات والعنف، لقد انطلقت فجأة كل المشاعر المكبوتة في داخل هذه الأقليات، مما أدخل البلاد في موجة عارمة من الاضطرابات والعنف المتبادل، لقد بدا واضحاً أن مشاكل الماضي التي لم تُحل قفزت الى الواجهة من جديد.

   قام علماء الاجتماع بدراسة هذه الظاهرة، وأسموها " أزمة التوقعات المتزايدة"، وهي الحالة التي تصيب المجتمع حين تلوح له فرصة التعبير عن مشاعره المدفونة بعد فترة طويلة من القمع والكبت، وهذا ما يحصل تماماً في مجتمعاتنا العربية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وما صاحبها من فوضى عارمة وانفلات في المشاعر الدفينة والمحبوسة. وأنا هنا أتحدث عن حالات العنف المجتمعي ولا أتحدث عن ظاهرة الجماعات المتطرفة والارهابية، فذلك موضوع آخر يحمل في طياته أبعاداً أخرى.

   مخطىء من يظن أن ظاهرة العنف المتزايد الذي تعاني منه مجتمعاتنا هي ظاهرة دخيلة أو مستحدثة، بل هي حالة مُتأصلة والذي تغير هو توزيع الأدوار فقط أو  بالأحرى تبادل الأدوار في معظم الحالات، كما أن حالات التمرد والعصيان ضد كافة أشكال السلطة ما هي سوى ردة فعل عكسية لسنوات الخنوع والذل التي عاشتها الشعوب العربية في ظل حكم الحزب الواحد والجريدة الواحدة والصوت الواحد، أما حالات التناحر السياسي والحرب الضروس التي تخوضها الأحزاب السياسية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار للاستئثار بالسلطة، فما هي سوى نتاج طبيعي لحالة التهميش التى عاشتها هذه الأحزاب خلال العقود الماضية.

  وهنا يتبادر الى الأذهان سؤال مهم، هل هذا يعني أننا ندور في حلقة مُفرغة، وأن دوامة العنف هذه ستستمر الى ما لا نهاية ؟!، وكيف هو السبيل للخروج من عنق الزجاجة، دعونا نعود الى أزمة الأقليات العرقية، صحيح أن هذه الأزمة استمرت لعدة سنوات وتواصلت الى عهد الرئيس "ليندون جونسون" ولكنها في النهاية انتهت، ولم يعد لها أي أثر، لقد تم تجاوز هذه الأزمة باعطاء المزيد من الحريات ورفع سقف الآمال والطموحات، وترسيخ مبادىء المساواة والعدالة الاجتماعية، مع تحمل المجتمع بكافة أطيافه مسؤولية الوصول الى بر الأمان، لم تحصل سوى ردة فعل محصورة للأغلبية، وبدورها استوعبت الأقليات حالة "التنفيس" التي يعيشونها وأرتقوا بأنفسهم فوق مستوى الأحداث وما لبثوا أن عادوا للانصهار في المجتمع من جديد، ليتمتعوا بالحرية التي نالوها بعد صراع طويل.

  يقول علماء النفس أن الانسان حين يتعرض لأزمات وضغوطات نفسية، وحين يجد صعوبة في الموازنة بين الرغبات الداخلية والمُحدّدات الخارجية، يقوم بتخزين هذه المشاعر المكبوتة في منطقة " اللاوعي" وحين تحين له الفرصة يقوم بالتعبير عن هذه المشاعر المكبوتة لا  شعورياً أو بطريقة لا ارادية، والطريقة الوحيدة للتخلص من هذه المشاعر ومعالجتها، هي محاولة استحضارها مجدداً ومواجهتها ومن ثم التخلص منها. ما يحدث حالياً في مجتمعاتنا لا يعدو كونه حالة تقمّص لشخصية الجلاّد التي عانينا منها جميعاً، ما تلبث أن تخبو وتزول بمجرد مواجهتنا الجريئة والصريحة لأنفسنا، واعترافنا بكل مشاكل الماضي وترسباته، وعزمنا على المضي قدماً بالتسامي فوق جراح الماضي، أملاً في مستقبل مشرق، وغد أفضل لأبنائنا، بعد أن نتجاوز حالة الانسداد الحضاري والأخلاقي التي نعاني منها حالياً.

  


أيمن أبولبن
09-09-2014







الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

ذاكرة المكان


  لا يضاهي حياة الانسان أي شيء في هذه الدنيا، ولذلك حرصت الأديان على حُرمة قتل الانسان لأخيه الانسان، يقول الله تعالى (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). لطالما تساءلتُ بيني وبين نفسي ما قيمة الانسان؟ ما الذي يزيد من قيمة الانسان في أعين الآخرين، ويجعله يحتل مكانة مرموقة بين الناس؟ هل هي انعكاس لجوهر هذا الانسان وما يحمله من أفكار ومبادىء سامية، ومُثُل عليا، أم هي المكانة الاجتماعية المرتبطة بالحسب والنسب والمال والجاه؟ وهل قيمة الانسان في الأديان قيمة مجردة لكونه يحمل السر الآلهي بداخله؟ وهذا التساؤل بدوره كان يقفز  بي الى تساؤلات أكثر غموضاً وحيرة، ما هي قيمة الانسان عند ذات الانسان؟ هل هناك ما يفوقها؟! كيف لشخص مثل نيلسون مانديلا أن يُضيّع شباب عمره في زنزانة صغيرة من أجل وطن؟ كيف لشخص مثل مارتن لوثر كينج أن يدفع حياته ثمناً من أجل المطالبة بالحرية والعدل والمساواة لبني جنسه؟ كيف لشخص مثل عمر المختار أن يتحدى دولة عظمى ويستقبل الموت ببسالة ويتحدى جلاّده؟ كيف لطفل فلسطيني أن يواجه دبابةً بحجر؟! ما الذي يدفع الانسان للتضحية بأغلى ما يملك من أجل قضية يؤمن بها؟

   لا شك بأن للانسان قيمة عظمى لكونه انساناً أولاً وقبل كل شيء بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه ودينه أو أي شيء آخر، ولكن قيمة الانسان في النهاية هي مُحصلة نهائية لما يحمله ويطبقه من أفكار ومبادىء سامية ومُثُل عليا، وتتعاظم بما يمثله من قيم حضارية وبقدر تاثيره في المجتمع وفي الحضارة الانسانية ككل، وفي هذا تفاوت كبير بين البشر، فالانسان "الخالي" من الوعي الايماني انما مثَلُهُ كقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفارا)، والانسان "الخالي" من المبادىء والقيم العليا انما مثَلُهُ كما قال الشاعر  حسان بن ثابت

لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عظمٍ                  جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ

فالانسان النبيل الفاضل هو من يكون تعامله انعكاسٌ لأفكاره ومبادئه، هو من يبذل كل ما يستطيع لتطبيق ونشر هذه المبادىء، وهو من يبذل كل ما يملك في هذه الدنيا مقابل أن تعيش مبادئه التي يناضل من أجلها، وهنا تكمن الراحة النفسية والحياة الطيبة، فمن يعيش من أجل قضية ما ويكرس ذاته من أجلها يعش سعيداً متوازناً منفتحاً على الآخر وعلى الدنيا بأسرها، ويرى أن عمره طال أو قصر ما هو  الا جزءٌ يسير من تاريخ البشرية، فيكون حرصه شديداً لأن يجعل لحياته معنىً ولموته سمواً، فلا يتردد أبداً بأن يضحي بحياته من أجل قضيته التي عاش من أجلها، أن يضحي بروحه من أجلها، بينما يُشفق كل انسان مجرّد من هذه المبادىء على بذل أي شيء غالٍ عليه، ويفضل أن يتخلى عن أي مبدأ أو خلق فضيل على أن يتخلى عن توافه هذه الدنيا، فكيف اذا وجب عليه الاختيار بين الحياة - على تفاهة عيشه - أو الموت والتضحية من أجل الآخرين، أو من أجل الأرض والوطن، أو من أجل قيم المجتمع!!
 
 هذا ما يقوله لنا التاريخ، وهذا ما تعلمناه من نضال العظماء على مر التاريخ، وهذا ما تثبته المقاومة الفلسطينية مرةً أخرى، مجرد نظرة متمعنة لما يحصل في غزة، والمقارنة بين إقبال مُقاتلي كتائب القسام وجُبن جنود الاحتلال يثبت هذه الحقيقة، ليس هذا فحسب، بل ان أي مُتابع للأحداث سيدرك أن النصر في النهاية سيكون لأبطال المقاومة مهما طال الزمان أو قصر، ومهما تفاوتت موازين القوى أو موازين التكنولوجيا والتقدم العلمي، فالتاريخ يعلمنا أن النصر لمن يملك الارادة، ولمن يسعى حثيثاً لتحقيق أهدافه، وليس النصر بالعدة والعتاد.

   عمّاذا يقاتل هذا الفلسطيني؟! سؤال تطرحه المجتمعات الغربية، ما الذي يدفعه الى بذل روحه في عملية فدائية؟ وما الذي يدفع أحد المواطنين لتقبيل جبين ابنه الشهيد والابتسامة تعلو وجهه؟! ما الذي يدفع مواطنة فلسطينية قد دمر منزلها للتو من الهتاف للمقاومة؟!
   لسان حال كل فلسطيني يقول : الانسان يموت ويأتي غيره، والبيوت تُهدم ثم يعاد إعمارها، ولكن الوطن يبقى وذاكرة المكان تبقى، ذاكرة المكان بما تحمله من خصوصية لكل من عاشها هي أغلى وأثمن من أي انسان، وليس هذا انتقاصاً من غلاوة وقيمة الانسان، ولا انكاراً للحرقة التي تعتصر القلوب لفقدان انسان عزيز أو مسكن كان يلم شمل العائلة.
    ذاكرة المكان هذه، انتقلت عبر الجينات الوراثية من جيل الى جيل، من جيل ثورة البراق الى جيل الثورة الفلسطينية الكبرى الى جيل النكبة فالنكسة الى أبناء العاصفة ثم الى جيل الانتفاضة و أبناء غزة، فالفلسطيني حينما يولد، يأتي الى هذه الدنيا وفي ذاكرته تاريخ فلسطين ورائحة ترابها من حيث لا يشعر، حتى وان ولد في أقاصي الأرض. ذاكرة المكان هي من تضخ الدماء في عروق هذا الفلسطيني وتنثر رائحة الوطن مع أنفاسه،

  يدرك الفلسطيني اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه يعيش من أجل رسالة وأنه وما يملك فداءٌ لهذه الرسالة، ابن فلسطين، حامل ذاكرة مكانها، هو من سيحمي هذه الأرض ويُعيدها سيرتها الأولى، ولا أحد سواه، أما القادم من وراء البحار فله ذاكرة مكان لا تخص فلسطين.

أيمن أبولبن
08-08-2014









الأربعاء، 11 يونيو 2014

هل بتنا بحاجة الى حركة تنوير عربية؟




  عانت أوروباً قديماً من التطرف الديني ومن تحكّم الكنيسة في الشؤون العامة للدولة، والذي وصل ذروته مع انشاء الكنيسة الكاثوليكية لما يُسمّى ب"محاكم التفتيش " التي راح ضحيتها عشرات الألوف على رأسهم عدد كبير من الفلاسفة ودعاة الحداثة الدينية، وأمتد الصراع بين الظلاميين وحركات التنوير الى ما يزيد عن قرنين من الزمان لغاية انطلاق الثورة الفرنسية والتي كانت المعركة الفاصلة التي جيّرت الأمور لصالح الحداثيين وحركة التنوير الفكري، ومما يذكر أن الثورة الفرنسية استمرت لما يزيد عن عشر  سنوات وسقط فيها ما يزيد عن ثلاثين الف ضحية، وشهدت مدّاً وجزراً بين الثورة والثورة المُضادة،

   في نهاية الأمر وصلت أوروبا الى مُبتغاها بوضع حد لما يُعرف بمرحلة "الحُكم المُطلق" وتحرّرت من قيود الكنيسة ثم انطلقت جاهدة في رحلة البحث عن التحضر والمدنيّة أملاً في تحقيق الحرية والعدالة لمواطنيها وفصل الدين عن السياسة، والنتيجة هي ما نراها الآن من ازدهار وتطور على جميع الأصعدة ، أو كما قال شيخنا الجليل "محمد عبده" (وجدتُ في الغرب اسلام بلا مسلمين)، فجميع الشعارات النبيلة التي يدعو الاسلام الى تحقيقها موجودة بالفعل ولكن دون مسلمين.

  من الطبيعي لأي باحث في قضية الساعة "الربيع العربي" أن يسترجع ما مرت به أوروبا في آتون رحلتها في البحث عن هويتها الفكرية، ومقارنته بما نمر به الآن في عالمنا العربي في ظل الثورات العربية، ولكن من الخطأ الاعتقاد أننا نستطيع أن نبني نهضتنا بناءً على تجارب الآخرين حتى لو كانت ناجحة ومُبهرة، فالاختلافات بيننا كبيرة وعميقة، فالثورات العربية انطلقت نتيجة أزمات تتعلق بالظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها شعوب المنطقة عدا عن الظلم والاستبداد الذي تعرضت له هذه الشعوب باسم الوطنية تارة والقومية العربية تارة أخرى، كما أنه لم يسبق الثورات العربية ثورة فلسفية كما كان الحال في أوروبا ولم يكن هناك أي صراع حضاري بين المجتمع والسلطة الدينية كما كان الوضع في أوروبا،

 من الملاحظ في الفترة الأخيرة، تنامي تيار يساري مُتطرّف في منطقتنا العربية، في محاولة لمُحاكاة حركة التنوير الاوروبية بالدعوة الى الحداثة والتنوير الفكري في مواجهة التطرف الديني، بمعنى آخر محاولة تكرار الثورة التنويرية في أوروبا والانسلاخ من كافة الروابط الدينية تحت شعار " لا يوجد تقدم فكري الا من خلال هدم كافة أشكال التديّن وبناء دولة مدنية تحترم حرية الأفراد من منظور انساني بحت "، ومن سخرية القدر، أن يتحالف هذا التيار مع الحُكم الديكتاتوري البوليسي في مواجهة الاسلام السياسي كما هو حاصل في مصر وفي سوريا - مع بعض الاختلافات هنا وهناك – مما أدى في النهاية الى انحسار الثورة الشعبية الحقيقية واختزال مطالبها الجوهرية الأساسية في هذين البلدين،
   لا بد من الاعتراف بأننا بحاجة الى مراجعة عقيدتنا وازالة كل الشوائب التي تراكمت عليها خلال قرون من الزمن، وأننا في أشد الحاجة الى اعادة تشكيل المفاهيم الدينية لدينا واعادة صياغتها بشكل حضاري معاصر يضمن في النهاية الفصل بين جوهر الدين و قشوره الظاهرية، ولكن الهدف النهائي من هذا هو التجديد والوصول الى منهج اسلامي وسطي تنويري معتدل يضم كافة الطوائف على اختلافاتها ويضمن المواطنة للجميع على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ودياناتهم وانتماءاتهم، وليس خلع عباءة الدين والتديّن كما حصل في أوروبا.

المنهج الديني الوسطي والاسلام السمح هو من سيقف في وجه التطرف الديني، وليس المنهج العلماني اليساري الذي يدعو الى التحلل من "قيود" الدين لمواكبة العصر، التعصب الديني يتم القضاء عليه بالفكر وبالاعتدال وبانتهاج سنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تعتمد على الوسطية يقول الله تعالى  ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ،أما محاولة تجريد الدين من جوهره وانتاج دين "مودرن" يتلاءم مع تطلعاتنا وأهوائنا البشرية، فهو كمن يحاول أن يصب النار على الزيت.
  
بالنظر الى النتائج التي آلت لها الثورات العربية ، يبدو جلياً أننا على أعتاب ثورة فكرية عاصفة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ، الى جانب صراعنا المرير ضد رموز الظلم والاستبداد في المنطقة، واذا أردنا أن نعبر الى بر الأمان فعلينا أن نخوض هذه المعركة بأنفسنا وننتصر بها، ولا سبيل لهذا سوى بتحقيق غايات الاسلام العليا المتمثلة باعتدال المنهج ونشر العدل والمساواة وتحقيق العدل والتحلي بالأخلاق الحميدة، والحرص على بناء المجتمع، ولن تتحقق هذه الغايات ان لم تنبع من داخلنا نحن الأفراد، وتنعكس بعد ذلك على مجتمعاتنا.

  لسنا بحاجة الى حركة تنوير أوروبية، بقدر ما نحن بحاجة الى ثورة تصحيح داخلية في المفاهيم الدينية تُفضي الى نبذ التعصب والتشدد الديني، بالاضافة الى نبذ الارهاب والتطرف الديني مع التمسك بثوابت الدين وجوهره.

أيمن أبولبن

31-5-2014