الخميس، 9 أكتوبر 2014

الحرب على داعش والشكوك المتزايدة



     تشير تسريبات "سنودن" بكل وضوح وصراحة أن تنظيم الدولة الاسلامية ما هو الا صنيعة مشتركة للمخابرات الأمريكية والبريطانية والاسرائيلية، فيما تبدو الأهداف من زرع هذا التنظيم في قلب الشرق الأوسط عديدة ومتنوعة ولا تقتصر على إشعال الاقتتال الطائفي في المنطقة، فيما تشير التسريبات الى أن خليفة التنظيم "أبو بكر البغدادي" قد تلقّى تدريبات مُكثّفة على مدار عام من قبل الموساد لتمكينه من تنفيذ مهمته التي أُطلق عليها اسم "عُش الدبابير" نسبة إلى المنظمة التي ستسقطب المتطرفين الاسلاميين من جميع دول العالم.

  وبالعودة الى الظروف الغامضة التي رافقت نشوء هذه الجماعة المتطرفة، وتسلسل الأحداث على أرض الواقع، نجد أن هذا التنظيم لم يُفلح في تحقيق أي من الأهداف التي ادّعى أنه يناضل من أجلها، بل على العكس تماماً كانت النتائج تصب دائماً في مصلحة الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة وبالتالي تصب في مصلحة اسرائيل، فبعد سلسلة من التظاهرات السلمية للقبائل والعشائر السُنيّة في العراق التي عانت الأمرّين من جبروت المالكي وتعنّته الطائفي، وبعد أن بات من الواضح أن الأمور فلتت من قبضة المالكي، وأن رياح التغيير قادمة لا محالة، أخذ تنظيم داعش زمام المبادرة وقام بمصادرة إرادة القبائل السنية وتصدّرَ الأحداث لمواجهة المالكي "عسكرياً" وبهذا انقلبت الأمور 180 درجة، خسرت العشائر السنيّة ورقة الثورة السلمية، وخسرت تأييد المتعاطفين من حولها، ثم وجدت نفسها محصورةً في خندق داعش والتطرف دون أن يكون لها باقة ولا بعير، وعلى الجهة المُقابلة قام الغرب بتسليح الجيش العراقي ليزداد قوةً في مواجهة داعش، كما أعطى الضوء الأخضر لإيران "وحلفائها" للتدخل عسكرياً في العراق والحد من خطورة داعش ، ليس هذا فحسب بل لاقت هذه الخطوات إستحساناً من دول وشعوب المنطقة على حد سواء، وبهذا تغلغل نفوذ إيران والجماعات الشيعية المتطرفة في العراق، وأزدادا الأمر سوءاً على الجماعات السنيّة.

  خلال الشهور الماضية تم إمداد الأكراد وقوات البشمركة بالعتاد والعدّة على مرأى ومسمع الجميع، دون أن يعترض أحد، ودون أن تثور ثائرة المنظمات الدولية، أومجلس الشيوخ الأمريكي، وأحزاب المعارضة هنا وهناك، الا يتبادر للأذهان سؤالٌ مُحير، منذ متى تقوم أمريكا بتزويد ميليشيات مًسلّحة "غير نظامية" بالسلاح علناً وعلى رؤوس الأشهاد، دون إعتراض أو حتى إستفسار ؟!

  أما في سوريا، ففي الوقت الذي كانت فيه الثورة السورية تحقق مكاسب على الأرض، وتُنشىء علاقات "حُسن جوار" مع المدنيين والأهالي في المدن والقُرى المًحررة، ظهرت الجماعات الإرهابية وعلى رأسها داعش لتصبح وبالاً على السوريين وتذيقهم أشد أنواع التنكيل والتعذيب مما أنساهم مرارة الواقع الذي عاشوه تحت حكم الأسد، وأدى في النهاية الى كُفرهم بالثورة السورية ولعنهم اليوم الذي انطلقت فيه شرارة الربيع العربي، خسرت الثورة السورية الكثير من التأييد والتعاطف بسبب داعش، وحقق النظام الكثير من النقاط الحاسمة على مستوى المجتمع الدولي والسياسة الخارجية، ليس هذا فحسب بل قامت بعض الفصائل التي انشقت عن الجيش السوري بإعادة المناطق التي تسيطر عليها للجيش السوري من جديد -بعد التعهد بالعفو عنهم-، حتى لا تسقط هذه المناطق في يد داعش !

  ومن المثير للجدل والدهشة، ما يحصل من تنسيق أمني بين قوات النظام السوري وقوات داعش، ومن الأمثلة الأكثر شيوعاً على ذلك، حين تخوض القوات النظامية معارك ضارية مع الجيش الحر، تبقى داعش خارج دائرة الصراع، وما أن تنسحب القوات السورية من منطقة المعارك، حتى تدخلها داعش، لتحرق الأخضر واليابس وتروّع الأهالي وتشردهم وتدحر الجيش الحر، وهكذا دواليك !

  من أطرف الأخبار التي سمعتها، أن داعش تبيع النفط السوري والغاز من المناطق التي تسيطر عليها للحكومة السورية، وتقوم الحكومة السورية بدفع أثمان هذا النفط عبر وسطاء، أو عبر إتفاقات سريّة مع التنظيم مقابل خدمات عسكرية ميدانية مُتبادلة بين الطرفين. وهكذا تتحقق مصلحة مشتركة بين الطرفين من وجهة نظري، داعش تُزوّد الحكومة السورية بالبترول حتى تستمر في مزاولة أعمالها، والحكومة السورية تموّل داعش للقضاء على ما تبقّى من الثورة السورية !

    بالنظر الى ما تُحقّقه داعش على الأرض، يَسهُل علينا أن نُدرك الأهداف من زرع هذا التنظيم، ومعرفة من المُستفيد من وجود هذا التنظيم، ومن ثم نستطيع أن ندرك، أن الحرب المزعومة على هذا "البُعبُع" ما هي الا حصاد لما تم زرعه، ومحاولة قطف الثمار التي نضجت كما قال الحجاج : (اني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها)، فأمريكا اليوم تُعلنها صراحةً أنها تدعم المعارضة المعتدلة في سوريا وأنها لن تسمح بقيام أي تنظيم أو أي دولة تُهدد حلفاءها في المنطقة "وعلى رأسهم اسرائيل" فأمريكا هي من تحدد ما هو تعريف الارهاب ومن هو الارهابي المتطرف، ومن يمثل الطرف المُعتدل كذلك، أما أهداف الحرب على داعش فسوف تتّسع لتشمل كل ما هو ارهابي من وجهة نظر أمريكا، في تمهيد لانهاء الصراع في سوريا واقامة نظام ديمقراطي مدني "شكلي" تشترك فيه كل الأطياف "بما فيها حزب البعث" ولا يكون فيه خاسر والأهم أن لا يكون هناك أي مُنتصر.

  في الحقيقة لا تُقلقني الحرب على الارهاب، بقدر ما يُقلقني أن الشعب السوري لم يستطع أن ينتصر في معركته لا سلمياً ولا عسكرياً -لأسباب خارجة عن ارادته-، وأن السبيل الوحيد لتغيير نظام الحكم في البلد هو لبس عباءة الأمريكان، وإن حصل هذا فسيكون المسمار الأخير في نعش الربيع العربي،
  
أيمن أبولبن

30-09-2014


الأربعاء، 1 أكتوبر 2014

ماذا بقي من نظرية المؤامرة ؟!



  ما أن انطلقت شرارة الربيع العربي وانتقلت من تونس الى مصر ثم الى ليبيا واليمن، حتى بادرتنا ثلّة من المثقفين بالربط بين نشأة الثورات ومخطط امبريالي صهيوني لاعادة تقسيم المنطقة من جديد وهو ما يُعرف بنظرية المؤامرة، وقام بعض هؤلاء المثقفين بنشر تقارير ومقالات مُطوّلة بالاضافة الى العديد من الكتب التي تتحدث بالتفصيل عن أركان هذه المؤامرة، ولعل أشهرها كتاب الفيلسوف التونسي ميزري حداد " الوجه المخفي للثورة التونسية" .

   وأعتمد أصحاب نظرية المؤامرة على قراءة الأحداث وتحليلها من وجهة نظر "المتآمر عليه" وربط هذه الأحداث مع وقائع تاريخية قديمة، للوصول الى نتيجة مفادها أن الثورات العربية ليست عفويّة وبريئة كما ندّعي نحن، فالولايات المتحدة قامت بالتخطيط لهذه الأحداث ودرّبت مجموعة من الشبان على كيفية احداث فوضى عارمة في البلاد ونشر ها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي مدعومين بتغطية اعلامية مكثفة من قنوات فضائية تدور في فلك المؤامرة، وبمجرد اندلاع أحداث الفوضى تقوم الادارة الامريكية باستغلال الوضع لقلب نظام الحكم بالتعاون مع حركة الاخوان المسلمين، وصولاً الى تمكينهم من الحُكم وبسط نفوذهم في المنطقة، ليقوموا بتطبيق الحكم الاسلامي المدني ظاهرياً مستغلين الشعبيّة العارمة التي يحظون بها، بينما يقومون بتنفيذ الأجندة الغربية والتعاون المطلق مع الغرب واسرائيل من خلف الستار، للقضاء على آخر معاقل "المُقاومة" في المنطقة وتحجيم دور ايران في المنطقة، مستفيدين من دعم دول الخليج.

   لا شك بأن هذه النظرية لقت رواجاً كبيرا في صفوف المثقفين والبسطاء على حد سواء ، لا سيما أن أسماء كبيرة تبنّت هذه النظرية وأنبرت للترويج لها، بل أن محطات فضائية قد تخصّصت في تقديم برامج داعمة للنظرية واستضافة المُروّجين لها، عدا عن دفاع الأنظمة "المُتهالكة" عن نفسها بتبنّي هذه النظرية والتحذير من المستقبل الأسود اذا ما نجحت الثورات العربية.

   ويتبادر الى أذهاننا جميعاً سؤالٌ من شأنه نسف نظرية المؤامرة من أساسها : هل كان بالامكان نجاح الانتفاضة العربية دون أسباب موجبة لها ؟! هل بالامكان تنفيذ هذه المؤامرة لاسقاط حكومة النرويج مثلاً أو السويد ؟! عدا عن أن التوافق المُفترض بين أنظمة الغرب والنظام الاسلامي المُزمع انشاؤه لا يُمكن التسليم به لا من ناحية المنطق ولا من قراءة التاريخ العميقة كما تدّعي هذه النظرية.

   لا أريد أن اخوض جدالاً بيزنطياً حول صحة نظرية المؤامرة، ولكني أريد اثبات عكسها من خلال الوقائع على الأرض، بادء ذي بدء اندحرت حركة الاخوان المسلمين وتم عزلها عن السلطة في أكبر بلد عربي "مصر"، ولم يعد لها أي تأثير أو قوة ضاربة في الحياة السياسية، لم تقم الولايات المتحدة بالتصدي للثورة المُضادة وأكتفت بتصريحات خجولة ، ثم أعلنت أن مرسي لم يكن ديمقراطياً وأن الصناديق وحدها لا تضمن شرعية بقائه في السلطة، ثم أصدرت بياناً تقول فيه أنها بحاجة الى مزيد من الوقت كي تقرر ما اذا كانت ثورة 30 يونيو هي ثورة أم انقلاب عسكري، وقد مضى ما يزيد عن عام كامل لم نسمع خلاله أي حديث يتطرق للنتائج النهائية التي توصلت لها الادارة الامريكية، ولكننا على كل حال نرى هذه النتائج على الأرض.

   قامت دول الخليج – ما عدا قطر – بمباركة ازاحة الاخوان عن الحكم، ومنها من أعلن الحرب على الحركة، على عكس ما هو مخطط له حسب نظرية المؤامرة،

  ولو نظرنا الى سوريا، لوجدنا أن النظام السوري استطاع دحر المؤامرة " الكونية" بل وعزّز من نفوذه في المنطقة، بانضمام ميليشيات حزب الله وميليشيات ايرانية الى ساحة المعركة، عدا عن الدعم الروسي السياسي والعسكري واللوجستي، واذا نظرنا الى ايران ودورها في المنطقة لوجدنا أن دورها تعاظم بعد الانتفاضة العربية بل أنها تقرّبت من الغرب وأبرمت صفقات تفاهم مع اوروبا وامريكا، وتم تخفيف اجراءات الحظر عليها، وكل هذا يسير في عكس المخطط الذي يتحدثون عنه، فعن أي مؤامرة يتحدثون ؟!

  مُبارك عاد الى الحكم من جديد، بشكل "مودرن" لطيف وحنون، ونظام المقاومة والممانعة ما زال يمارس مقاومته وممانعته "على شعبه الأعزل بالطبع"، بينما حدوده مع العدو الصهيوني ما زالت آمنة، والمد الشيعي في المنطقة في أوجه، وما زال يصر على انتهاج العنصرية الطائفية الفجّة ضد السُنّة ، من ايران الى لبنان مروراً بالعراق وسوريا، فعن أي مؤامرة يتحدثون ؟

   يُذكّرني أصحاب نظرية المؤامرة بقصة طريفة رواها لي أحد الأصدقاء المحامين، يقول: في واحدة من القضايا قدّم الادعاء العام أحد شهود الاثبات ضد موكلي، وعند بدء الاستجواب في المحكمة تفاجأت من الذاكرة القوية التي يتمتع بها هذا الشاهد، فقد كان يروي الأحداث بتسلسل زمني مكاني مُتقن، ثم يستخدم المنطق والحجّة لربط الأحداث واثبات التهمة على موكلي، وعندما أتاح لي القاضي سؤال الشاهد، فكرتُ مليّاً بالطريقة المُثلى في كيفية دحض شهادته، ثم ومضت في عقلي فكرة ما، فتوجهت له بسؤال أثار استغراب مَنْ في القاعة، قلت له: ما اليوم من أيام الأسبوع؟ فأظهر استغرابه ثم ما لبث أن أجاب، أردفت سريعاً وما هو تاريخ اليوم؟، تلعثم قليلاً ثم أجاب، رفعت من حدة صوتي وقلت له يوم السبت الماضي كم صادف من التاريخ؟ شعرت حينها أنه أُسقط من يده، فاستمرّيت في استجوابه بنفس الطريقة، اذا كان تاريخ اليوم هو كذا فكم يكون تاريخ الجمعة القادم؟ أطبق عليه الصمت ولم ينبس ببنت شفة، وقفت حينها وسط القاعة وقلت القولة المشهورة ( سيادة القاضي لقد أُمليت على الشاهد شهادته) كسب صديقي قضيته وخرج المتهم بريئاً،

  العجيب أن تجربتي في النقاش مع أصحاب نظرية المؤامرة تشبه الى حد بعيد تجربة صديقي مع هذا الشاهد، كنت أستغرب من الوقائع التاريخية المدعمة بالحقائق التي يسردونها ، وبكمية الدلائل التي يملكونها ، عدا عن ايمانهم المُطلق في كل ما ينطقون به، وبعد أن أقوم بتحليل قرائنهم وأدلتهم والرد عليها ثم أواجههم بالمنطق والعقل ، وفوق هذا كله بالواقع وبالأحداث على الأرض ، يصمتون ولا يجيبون ولكنهم يزدادون عناداً !!

   يا أصحاب نظرية المؤامرة، أفيقوا، لقد أُمليت عليكم شهادتكم من حيث لا تعلمون، ان المؤامرة الحقيقية هي ما ترون، لا ما تظنون !! فالمظاهرات السلمية تحولت الى فوضى عبثية بكل معنى الكلمة، وطواغيت المنطقة ازدادوا نفوذاً بل ازدادوا عدداً، ووقعت شعوب المنطقة بين فكّي كمّاشة، حكم الطغاة من جهة وبطش الجماعات الارهابية من جهة أخرى، لقد كُمّمت الأفواه من جديد، وسكتت كل الشعارات المُطالبة بالحرية والعدالة والمساواة، والربيع العربي بريء من كل هذا براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

أيمن أبولبن

6-9-2014

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

ثورات الربيع العربي وأزمة التوقعات المتزايدة



     أثناء حكم الرئيس الأمريكي "جورج كيندي" في الستينات من القرن الماضي، أُعطيت الأقليات العرقية في الولايات المتحدة حقوقاً أكثر من أي وقت مضى، بعد رحلة كفاح طويلة ضد قوانين التمييز والعنصرية، ونتيجة لذلك طفت على السطح حالات من الغضب والاضطرابات والعنف، لقد انطلقت فجأة كل المشاعر المكبوتة في داخل هذه الأقليات، مما أدخل البلاد في موجة عارمة من الاضطرابات والعنف المتبادل، لقد بدا واضحاً أن مشاكل الماضي التي لم تُحل قفزت الى الواجهة من جديد.

   قام علماء الاجتماع بدراسة هذه الظاهرة، وأسموها " أزمة التوقعات المتزايدة"، وهي الحالة التي تصيب المجتمع حين تلوح له فرصة التعبير عن مشاعره المدفونة بعد فترة طويلة من القمع والكبت، وهذا ما يحصل تماماً في مجتمعاتنا العربية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وما صاحبها من فوضى عارمة وانفلات في المشاعر الدفينة والمحبوسة. وأنا هنا أتحدث عن حالات العنف المجتمعي ولا أتحدث عن ظاهرة الجماعات المتطرفة والارهابية، فذلك موضوع آخر يحمل في طياته أبعاداً أخرى.

   مخطىء من يظن أن ظاهرة العنف المتزايد الذي تعاني منه مجتمعاتنا هي ظاهرة دخيلة أو مستحدثة، بل هي حالة مُتأصلة والذي تغير هو توزيع الأدوار فقط أو  بالأحرى تبادل الأدوار في معظم الحالات، كما أن حالات التمرد والعصيان ضد كافة أشكال السلطة ما هي سوى ردة فعل عكسية لسنوات الخنوع والذل التي عاشتها الشعوب العربية في ظل حكم الحزب الواحد والجريدة الواحدة والصوت الواحد، أما حالات التناحر السياسي والحرب الضروس التي تخوضها الأحزاب السياسية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار للاستئثار بالسلطة، فما هي سوى نتاج طبيعي لحالة التهميش التى عاشتها هذه الأحزاب خلال العقود الماضية.

  وهنا يتبادر الى الأذهان سؤال مهم، هل هذا يعني أننا ندور في حلقة مُفرغة، وأن دوامة العنف هذه ستستمر الى ما لا نهاية ؟!، وكيف هو السبيل للخروج من عنق الزجاجة، دعونا نعود الى أزمة الأقليات العرقية، صحيح أن هذه الأزمة استمرت لعدة سنوات وتواصلت الى عهد الرئيس "ليندون جونسون" ولكنها في النهاية انتهت، ولم يعد لها أي أثر، لقد تم تجاوز هذه الأزمة باعطاء المزيد من الحريات ورفع سقف الآمال والطموحات، وترسيخ مبادىء المساواة والعدالة الاجتماعية، مع تحمل المجتمع بكافة أطيافه مسؤولية الوصول الى بر الأمان، لم تحصل سوى ردة فعل محصورة للأغلبية، وبدورها استوعبت الأقليات حالة "التنفيس" التي يعيشونها وأرتقوا بأنفسهم فوق مستوى الأحداث وما لبثوا أن عادوا للانصهار في المجتمع من جديد، ليتمتعوا بالحرية التي نالوها بعد صراع طويل.

  يقول علماء النفس أن الانسان حين يتعرض لأزمات وضغوطات نفسية، وحين يجد صعوبة في الموازنة بين الرغبات الداخلية والمُحدّدات الخارجية، يقوم بتخزين هذه المشاعر المكبوتة في منطقة " اللاوعي" وحين تحين له الفرصة يقوم بالتعبير عن هذه المشاعر المكبوتة لا  شعورياً أو بطريقة لا ارادية، والطريقة الوحيدة للتخلص من هذه المشاعر ومعالجتها، هي محاولة استحضارها مجدداً ومواجهتها ومن ثم التخلص منها. ما يحدث حالياً في مجتمعاتنا لا يعدو كونه حالة تقمّص لشخصية الجلاّد التي عانينا منها جميعاً، ما تلبث أن تخبو وتزول بمجرد مواجهتنا الجريئة والصريحة لأنفسنا، واعترافنا بكل مشاكل الماضي وترسباته، وعزمنا على المضي قدماً بالتسامي فوق جراح الماضي، أملاً في مستقبل مشرق، وغد أفضل لأبنائنا، بعد أن نتجاوز حالة الانسداد الحضاري والأخلاقي التي نعاني منها حالياً.

  


أيمن أبولبن
09-09-2014







الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

ذاكرة المكان


  لا يضاهي حياة الانسان أي شيء في هذه الدنيا، ولذلك حرصت الأديان على حُرمة قتل الانسان لأخيه الانسان، يقول الله تعالى (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). لطالما تساءلتُ بيني وبين نفسي ما قيمة الانسان؟ ما الذي يزيد من قيمة الانسان في أعين الآخرين، ويجعله يحتل مكانة مرموقة بين الناس؟ هل هي انعكاس لجوهر هذا الانسان وما يحمله من أفكار ومبادىء سامية، ومُثُل عليا، أم هي المكانة الاجتماعية المرتبطة بالحسب والنسب والمال والجاه؟ وهل قيمة الانسان في الأديان قيمة مجردة لكونه يحمل السر الآلهي بداخله؟ وهذا التساؤل بدوره كان يقفز  بي الى تساؤلات أكثر غموضاً وحيرة، ما هي قيمة الانسان عند ذات الانسان؟ هل هناك ما يفوقها؟! كيف لشخص مثل نيلسون مانديلا أن يُضيّع شباب عمره في زنزانة صغيرة من أجل وطن؟ كيف لشخص مثل مارتن لوثر كينج أن يدفع حياته ثمناً من أجل المطالبة بالحرية والعدل والمساواة لبني جنسه؟ كيف لشخص مثل عمر المختار أن يتحدى دولة عظمى ويستقبل الموت ببسالة ويتحدى جلاّده؟ كيف لطفل فلسطيني أن يواجه دبابةً بحجر؟! ما الذي يدفع الانسان للتضحية بأغلى ما يملك من أجل قضية يؤمن بها؟

   لا شك بأن للانسان قيمة عظمى لكونه انساناً أولاً وقبل كل شيء بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه ودينه أو أي شيء آخر، ولكن قيمة الانسان في النهاية هي مُحصلة نهائية لما يحمله ويطبقه من أفكار ومبادىء سامية ومُثُل عليا، وتتعاظم بما يمثله من قيم حضارية وبقدر تاثيره في المجتمع وفي الحضارة الانسانية ككل، وفي هذا تفاوت كبير بين البشر، فالانسان "الخالي" من الوعي الايماني انما مثَلُهُ كقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفارا)، والانسان "الخالي" من المبادىء والقيم العليا انما مثَلُهُ كما قال الشاعر  حسان بن ثابت

لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عظمٍ                  جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ

فالانسان النبيل الفاضل هو من يكون تعامله انعكاسٌ لأفكاره ومبادئه، هو من يبذل كل ما يستطيع لتطبيق ونشر هذه المبادىء، وهو من يبذل كل ما يملك في هذه الدنيا مقابل أن تعيش مبادئه التي يناضل من أجلها، وهنا تكمن الراحة النفسية والحياة الطيبة، فمن يعيش من أجل قضية ما ويكرس ذاته من أجلها يعش سعيداً متوازناً منفتحاً على الآخر وعلى الدنيا بأسرها، ويرى أن عمره طال أو قصر ما هو  الا جزءٌ يسير من تاريخ البشرية، فيكون حرصه شديداً لأن يجعل لحياته معنىً ولموته سمواً، فلا يتردد أبداً بأن يضحي بحياته من أجل قضيته التي عاش من أجلها، أن يضحي بروحه من أجلها، بينما يُشفق كل انسان مجرّد من هذه المبادىء على بذل أي شيء غالٍ عليه، ويفضل أن يتخلى عن أي مبدأ أو خلق فضيل على أن يتخلى عن توافه هذه الدنيا، فكيف اذا وجب عليه الاختيار بين الحياة - على تفاهة عيشه - أو الموت والتضحية من أجل الآخرين، أو من أجل الأرض والوطن، أو من أجل قيم المجتمع!!
 
 هذا ما يقوله لنا التاريخ، وهذا ما تعلمناه من نضال العظماء على مر التاريخ، وهذا ما تثبته المقاومة الفلسطينية مرةً أخرى، مجرد نظرة متمعنة لما يحصل في غزة، والمقارنة بين إقبال مُقاتلي كتائب القسام وجُبن جنود الاحتلال يثبت هذه الحقيقة، ليس هذا فحسب، بل ان أي مُتابع للأحداث سيدرك أن النصر في النهاية سيكون لأبطال المقاومة مهما طال الزمان أو قصر، ومهما تفاوتت موازين القوى أو موازين التكنولوجيا والتقدم العلمي، فالتاريخ يعلمنا أن النصر لمن يملك الارادة، ولمن يسعى حثيثاً لتحقيق أهدافه، وليس النصر بالعدة والعتاد.

   عمّاذا يقاتل هذا الفلسطيني؟! سؤال تطرحه المجتمعات الغربية، ما الذي يدفعه الى بذل روحه في عملية فدائية؟ وما الذي يدفع أحد المواطنين لتقبيل جبين ابنه الشهيد والابتسامة تعلو وجهه؟! ما الذي يدفع مواطنة فلسطينية قد دمر منزلها للتو من الهتاف للمقاومة؟!
   لسان حال كل فلسطيني يقول : الانسان يموت ويأتي غيره، والبيوت تُهدم ثم يعاد إعمارها، ولكن الوطن يبقى وذاكرة المكان تبقى، ذاكرة المكان بما تحمله من خصوصية لكل من عاشها هي أغلى وأثمن من أي انسان، وليس هذا انتقاصاً من غلاوة وقيمة الانسان، ولا انكاراً للحرقة التي تعتصر القلوب لفقدان انسان عزيز أو مسكن كان يلم شمل العائلة.
    ذاكرة المكان هذه، انتقلت عبر الجينات الوراثية من جيل الى جيل، من جيل ثورة البراق الى جيل الثورة الفلسطينية الكبرى الى جيل النكبة فالنكسة الى أبناء العاصفة ثم الى جيل الانتفاضة و أبناء غزة، فالفلسطيني حينما يولد، يأتي الى هذه الدنيا وفي ذاكرته تاريخ فلسطين ورائحة ترابها من حيث لا يشعر، حتى وان ولد في أقاصي الأرض. ذاكرة المكان هي من تضخ الدماء في عروق هذا الفلسطيني وتنثر رائحة الوطن مع أنفاسه،

  يدرك الفلسطيني اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه يعيش من أجل رسالة وأنه وما يملك فداءٌ لهذه الرسالة، ابن فلسطين، حامل ذاكرة مكانها، هو من سيحمي هذه الأرض ويُعيدها سيرتها الأولى، ولا أحد سواه، أما القادم من وراء البحار فله ذاكرة مكان لا تخص فلسطين.

أيمن أبولبن
08-08-2014









الأربعاء، 11 يونيو 2014

هل بتنا بحاجة الى حركة تنوير عربية؟




  عانت أوروباً قديماً من التطرف الديني ومن تحكّم الكنيسة في الشؤون العامة للدولة، والذي وصل ذروته مع انشاء الكنيسة الكاثوليكية لما يُسمّى ب"محاكم التفتيش " التي راح ضحيتها عشرات الألوف على رأسهم عدد كبير من الفلاسفة ودعاة الحداثة الدينية، وأمتد الصراع بين الظلاميين وحركات التنوير الى ما يزيد عن قرنين من الزمان لغاية انطلاق الثورة الفرنسية والتي كانت المعركة الفاصلة التي جيّرت الأمور لصالح الحداثيين وحركة التنوير الفكري، ومما يذكر أن الثورة الفرنسية استمرت لما يزيد عن عشر  سنوات وسقط فيها ما يزيد عن ثلاثين الف ضحية، وشهدت مدّاً وجزراً بين الثورة والثورة المُضادة،

   في نهاية الأمر وصلت أوروبا الى مُبتغاها بوضع حد لما يُعرف بمرحلة "الحُكم المُطلق" وتحرّرت من قيود الكنيسة ثم انطلقت جاهدة في رحلة البحث عن التحضر والمدنيّة أملاً في تحقيق الحرية والعدالة لمواطنيها وفصل الدين عن السياسة، والنتيجة هي ما نراها الآن من ازدهار وتطور على جميع الأصعدة ، أو كما قال شيخنا الجليل "محمد عبده" (وجدتُ في الغرب اسلام بلا مسلمين)، فجميع الشعارات النبيلة التي يدعو الاسلام الى تحقيقها موجودة بالفعل ولكن دون مسلمين.

  من الطبيعي لأي باحث في قضية الساعة "الربيع العربي" أن يسترجع ما مرت به أوروبا في آتون رحلتها في البحث عن هويتها الفكرية، ومقارنته بما نمر به الآن في عالمنا العربي في ظل الثورات العربية، ولكن من الخطأ الاعتقاد أننا نستطيع أن نبني نهضتنا بناءً على تجارب الآخرين حتى لو كانت ناجحة ومُبهرة، فالاختلافات بيننا كبيرة وعميقة، فالثورات العربية انطلقت نتيجة أزمات تتعلق بالظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها شعوب المنطقة عدا عن الظلم والاستبداد الذي تعرضت له هذه الشعوب باسم الوطنية تارة والقومية العربية تارة أخرى، كما أنه لم يسبق الثورات العربية ثورة فلسفية كما كان الحال في أوروبا ولم يكن هناك أي صراع حضاري بين المجتمع والسلطة الدينية كما كان الوضع في أوروبا،

 من الملاحظ في الفترة الأخيرة، تنامي تيار يساري مُتطرّف في منطقتنا العربية، في محاولة لمُحاكاة حركة التنوير الاوروبية بالدعوة الى الحداثة والتنوير الفكري في مواجهة التطرف الديني، بمعنى آخر محاولة تكرار الثورة التنويرية في أوروبا والانسلاخ من كافة الروابط الدينية تحت شعار " لا يوجد تقدم فكري الا من خلال هدم كافة أشكال التديّن وبناء دولة مدنية تحترم حرية الأفراد من منظور انساني بحت "، ومن سخرية القدر، أن يتحالف هذا التيار مع الحُكم الديكتاتوري البوليسي في مواجهة الاسلام السياسي كما هو حاصل في مصر وفي سوريا - مع بعض الاختلافات هنا وهناك – مما أدى في النهاية الى انحسار الثورة الشعبية الحقيقية واختزال مطالبها الجوهرية الأساسية في هذين البلدين،
   لا بد من الاعتراف بأننا بحاجة الى مراجعة عقيدتنا وازالة كل الشوائب التي تراكمت عليها خلال قرون من الزمن، وأننا في أشد الحاجة الى اعادة تشكيل المفاهيم الدينية لدينا واعادة صياغتها بشكل حضاري معاصر يضمن في النهاية الفصل بين جوهر الدين و قشوره الظاهرية، ولكن الهدف النهائي من هذا هو التجديد والوصول الى منهج اسلامي وسطي تنويري معتدل يضم كافة الطوائف على اختلافاتها ويضمن المواطنة للجميع على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ودياناتهم وانتماءاتهم، وليس خلع عباءة الدين والتديّن كما حصل في أوروبا.

المنهج الديني الوسطي والاسلام السمح هو من سيقف في وجه التطرف الديني، وليس المنهج العلماني اليساري الذي يدعو الى التحلل من "قيود" الدين لمواكبة العصر، التعصب الديني يتم القضاء عليه بالفكر وبالاعتدال وبانتهاج سنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تعتمد على الوسطية يقول الله تعالى  ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ،أما محاولة تجريد الدين من جوهره وانتاج دين "مودرن" يتلاءم مع تطلعاتنا وأهوائنا البشرية، فهو كمن يحاول أن يصب النار على الزيت.
  
بالنظر الى النتائج التي آلت لها الثورات العربية ، يبدو جلياً أننا على أعتاب ثورة فكرية عاصفة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ، الى جانب صراعنا المرير ضد رموز الظلم والاستبداد في المنطقة، واذا أردنا أن نعبر الى بر الأمان فعلينا أن نخوض هذه المعركة بأنفسنا وننتصر بها، ولا سبيل لهذا سوى بتحقيق غايات الاسلام العليا المتمثلة باعتدال المنهج ونشر العدل والمساواة وتحقيق العدل والتحلي بالأخلاق الحميدة، والحرص على بناء المجتمع، ولن تتحقق هذه الغايات ان لم تنبع من داخلنا نحن الأفراد، وتنعكس بعد ذلك على مجتمعاتنا.

  لسنا بحاجة الى حركة تنوير أوروبية، بقدر ما نحن بحاجة الى ثورة تصحيح داخلية في المفاهيم الدينية تُفضي الى نبذ التعصب والتشدد الديني، بالاضافة الى نبذ الارهاب والتطرف الديني مع التمسك بثوابت الدين وجوهره.

أيمن أبولبن

31-5-2014

السبت، 31 مايو 2014

دَوْر السينما في تصحيح المفاهيم (العُبودية أُنموذجاً )



   أنتجت السينما الأمريكية خلال العام الماضي فيلمين مهمين يستعرضان قضية العبودية في امريكا، الفيلم الأول كان ( الخادم  The Butler) تلاه فيلم ( 12 عام من العبودية 12 Years a Slave  ) والذي نال شهرة واسعة نتيجة حصوله على أهم جائزة للأوسكار (جائزة أفضل فيلم). عدة قواسم مشتركة بين الفيلمين أهمها الاعتماد على قصة حقيقية وتحويل الرواية الأدبية الى فيلم سينمائي بنجاح فني باهر، بالاضافة الى القاء الضوء على حقبة سوداء في التاريخ الأمريكي، أستمرت ذيولها لقرن من الزمان.

   الاختلاف الرئيسي بينهما يكمن في أن فيلم "الخادم" يصحبنا في رحلة طويلة تمتد من بدايات العبودية في زمن الاقطاعيين وصولاً الى تتويج باراك اوباما كأول رئيس أسود مُنتخب في البلاد، مع القاء الضوء على المحطات الرئيسية لهذه القضية على امتداد التاريخ الأمريكي وخصوصاً مرحلة العنصرية ضد السود، في حين أن الفيلم المفضل لدى النقّاد هذا العام (12 عام من العبودية) يركز على مرحلة العبودية في منتصف القرن التاسع عشر من خلال عرض قصة كفاح بطل الفيلم (مؤلف الرواية الأصلية) والمعاناة التي عاشها السود في تلك المرحلة.

  بعيداً عن النجاح الفني والتألق الذي تمتع به الفيلمان فان اللافت هو جرأة السينما الأمريكية عموماً في طرح أزمات ومشكلات المجتمع ومناقشة قضاياه بكل موضوعية وشفافية وبحياد تام. صحيح أن الولايات المتحدة ما زالت تعاني الكثير من المشاكل سواءً على صعيد التفكك الأسري أوالتباعد بين خطوط العرقيات المختلفة داخل مجتمعاتها، أو حتى على الصعيد الفكري والأخلاقي، بالاضافة الى التحديات الكبيرة التي تواجهها على المستويين الاقتصادي والسياسي، مما يشير الى أنها ليست أنموذجاً للمدينة الفاضلة بالتأكيد، ولكن بالرغم من كل هذا علينا أن نعترف ونشيد بقدرتها على مواجهة مشكلاتها، في الوقت الذي ما زالت مجتمعاتنا الشرقية تعاني فيه من قصور شديد في هذه الناحية،

    من المعروف أن تحديد المشكلة والوقوف على أسبابها هو نصف الحل، ويبدو أننا ما زلنا نعاني من مشكلة أساسية وهي عدم قدرتنا على مواجهة مشكلاتنا والاعتراف بأخطائنا وقصورنا، سواءً على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو حتى القيادات والنخب السياسية، ونعتقد أننا اذا تجاهلنا المشكلة فأنها ستندثر وتنتهي بالتقادم، وهذا خطأ أعظم من الوقوع في المشكلة بحد ذاته !! فبعد أن حبانا الله بالاسلام الذي عالج كل مشاكلنا الدنيوية والروحانية (ومن ضمنها العبودية) ودفع بالأمة الاسلامية لتتبوأ صدارة الأمم المتحضرة وتقود هذا العالم، من الواضح أننا فشلنا في التعامل مع المشكلات التي طفت على السطح بعد ذلك وانزلقنا في مستنقع الخلافات، لنقبع في مؤخرة قائمة الأمم، ونتصدر قائمة الأمم "المُتخلفة".

  في الوقت الذي تتعافى فيه المجتمعات الغربية من مشكلاتها المزمنة وتغسل وسخها رويداً رويداً، نقف نحن مكتوفي الأيدي مُكتفين بترديد شعارات عن المثالية، وحين يتطلب الأمر نغوص في أعماق تاريخنا العريق كي نتلذذ بريادتنا للأمم ونثبت أننا الأفضل والأحسن، والأهم من ذلك أننا على النهج السليم في حين أن الغرب باع آخرته وأشترى دنياه !!

   مجموعة كبيرة من التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا، وفجوة حضارية هائلة تفصل بيننا وبين العالم الغربي، وما زلنا غير قادرين على مواجهة أنفسنا وتحديد مشكلاتنا، بل حتى الحديث عنها والبوح بها. لقد ذُهلنا جميعاً خلال السنوات الأخيرة من مدى تورطنا في أزمات ومشكلات عويصة تكاد تكون عصيّة على الحل وتحتاج على ما يبدو الى عقود من الزمن للتخلص منها، وعلى رأس هذه المشاكل، الطائفية والتطرف الديني بل وحتى الفكري، فعالمنا العربي من أقصى الشرق الى أقصى الغرب يعج بالاقتتال الطائفي والاختلافات الفكرية والحزبية، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما تشهده الساحة العربية من مناحرات وتجاذبات بين سُنّي و شيعي، مُسلم و قبطي، مواطن و أجنبي، عربي و أمازيغي، اخونجي وعلماني وقس على ذلك. ولو قامت السينما العربية بعرض شفّاف لأحدى هذه القضايا لقامت حروب ولشُرّدت طوائف.

     لا حل لمشكلاتنا بدون ان نعترف بها أولاً وبفشلنا في التعامل معها ومن ثم وضع الحلول لها، وهذا ليس مقتصر على الحكومات أو المُفكرين والمثقفين فقط بل هو واجبٌ على المجتمع ككل. مع الاعتراف بأن الرموز الفكرية وأصحاب القرار لهم اليد الطولى في حل مشاكل المجتمعات المُزمنة، فلم يكن بالامكان القضاء على مشكلة العبودية لولا جرأة الرئيس لينكولن وقيامه بتعديل الدستور والغاء كافة قوانين العبودية رغم المعارضة الكبيرة التي واجهها، ولولا قرار الرئيس كندي بالغاء كافة قوانين التمييز العنصري رغم اعتراض رموز المجتمع آنذاك، دون أن ننسى الدور الذي قام به المفكرون من أمثال مارتن لوثر كينج في النضال من أجل نيل الحرية والمساواة، ومن المؤسف أن جميع من ذكرت دفعوا حياتهم ثمناً لقيادتهم لثورة "التغيير" في مجتمعاتهم!!
 
أختم حديثي بحوار تضمّنه فيلم ( 12 عام من العبودية ) حيث ينتقد أحد الأشخاص (البيض) الظروف المعيشية للعمّال (العبيد) في احدى المزارع فيرد عليه صاحب المزرعة بأن هؤلاء ليسوا عُمّالا أو مُستأجرين، بل هم جزء من أملاكه بعد أن دفع ثمنهم حسب القانون، فيرد عليه: القوانين تتغير بينما الحقيقة والقيم المطلقة لا تتغير، ماذا لو استطاع السود أن يتحكموا في القوانين وجعلوا من البيض عبيداً لهم ؟! ما هو حق وصواب فهو حق وصواب للجميع وليس لفئة دون غيرها، والحق الذي أراه أن البيض والسود متساوون أمام الله.

صحيح أننا لم نعش في مجتمعاتنا الشرقية تفرقة بين أبيض وأسود، ولكننا نعيش تفرقة من نوع آخر، لقد بدّلنا الكلمات ولم نحل المشكلة، ولا أرى حلاً لمشكلاتنا دون أن نواجهها ونقود ثورة تغيير حقيقية في مفاهيمنا.

أيمن أبولبن
5-5-2014


الأحد، 11 مايو 2014

خربشات على صفحات التاريخ

خربشات على صفحات التاريخ

   خلال عام 2013 دخلت الثورة السورية نفقاً مُظلماً مع دخول الجماعات المُتطرفة ساحة الصراع هناك قابله أيضاً مُشاركة ميليشيات حزب الله في الصراع الى جانب القوات النظامية، ونتيجة لذلك تضاعفت مأساة الشعب السوري حيث أمسى بين فكّي كماشة، النظام السوري من جهة، وبطش الجماعات المّتطرفة من جهة أخرى. والرابح الوحيد من هذا المنحنى الخطير الذي اتخذته الأحداث، كان النظام السوري.  

   من يقرأ الأحداث بعمق ولا يكتفي بمتابعة ما يطفو على السطح، يسهل عليه تحليل الأحداث واستنتاج أن النظام السوري كان يهدف منذ البداية الى جر الثورة السورية "السلميّة" الى فخ "تسليح المُعارضة" ومن ثم فتح الباب على مصراعيه للاقتتال الطائفي، ولا يخفى على متابعي الأحداث عن كثب، العلاقة المشبوهة التي تربط النظام بأكبر تنظيم متطرف في المنطقة (داعش) والذي يعيث في الأرض الفساد، وأكبر دليل على هذه العلاقة هو التنسيق الأمني الحاصل بين الطرفين على الأرض، وعدم دخولهما في أي مواجهة مباشرة.

   عدا عن الصاق تهمة الارهاب بالمعارضة، فقد استطاع النظام السوري نقل المعركة من ساحة الصراع السياسي -التي يعلم جيداً أنه سيفشل فيها- الى ساحة اقتتال يجيد التعامل معها جيداً، بل وبامكانه التحكم في ادارة دفة الصراع فيها، وهذا ما مكّنه من ايهام البسطاء أن النظام السوري على كل علاّته أرحم بكثير من هؤلاء المتطرفين وأن صموده في المعركة هو أفضل ما يمكن أن يتمناه الشعب السوري في هذه المرحلة. بعد أن كان اسقاط النظام مطلباً شرعياً للشعب السوري بل مطلباً جماهيرياً لمعظم الشعوب العربية.

  يقول المفكر والفيلسوف الألماني "هيغل" أن العالم يسير الى الأفضل وأن عجلة التاريخ لن تعود أبداً الى الوراء، وهذا ما لا يدركه النظام السوري، الذي ما زال حتى الآن يراهن على قدرته على اعادة عقارب الساعة الى ما قبل الربيع العربي وأنه بالامكان منع احجار الدومينو  من السقوط المتوالي. النظام السوري يراهن على أن التاريخ سينبهر من وقع الأحداث اليومية المتلاحقة على الساحة السورية وسينهمك في تغطية التفاصيل الصغيرة ويعجز بالتالي عن ادراك الحقيقة الكامنة تحت السطح، تلك الحقيقة التي تُدين النظام السوري في كل ما يجري على الساحة السورية. وتثبت أن علاقته بالارهاب علاقة أزلية متجدّدة.

    التاريخ سيذكر –رغم أنف النظام- أن "خربشات" أطفال على جدران درعا هزّت عرش النظام السوري فارتجف ولم يجد أمامه سوى لغة البطش والقبضة الأمنية التي لا يُجيد غيرها، التاريخ سيذكر أن أول ضحايا المظاهرات السلمية كان طفلاُ لا يتجاوز عمره ثلاثة عشر ربيعاً "حمزة الخطيب" وأن الأمن السوري أراد أن يجعل منه عبرةً لمن يعتبر فقام بالتمثيل في جثته، حيث قطع عضوه التناسلي، كما سيذكر التاريخ أيضاً حادثة ذبح "إبراهيم قاشوش" (مُغني الثورة السورية) واقتلاع حنجرته ثم القاء جثته في نهر العاصي، وسيذكر أيضاً كسر أصابع علي فرزات (الرسّام المناهض للنظام)، واقتلاع عين مصور مظاهرات حمص. فمن هو الارهابي الأول في سوريا، ومن زرع بذور الارهاب في المنطقة، وسعى لحصد ثمارها ؟!

التاريخ سيحكم على النظام السوري ولن يجامله كما يفعل كثيرون، لن يلتفت التاريخ الى ارهاصات نظرية المؤامرة، ولن يتمكن الفيتو الروسي ولا الدعم الايراني ولا ميليشيات حزب الله من وقف عجلة التاريخ ولا تغيير نواميس الكون، وأقصى ما يمكن فعله هؤلاء هو تأخير عجلة الأحداث لبعض الوقت. يقول الله تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين).

   العالم يحكمه العقل والمنطق والحق في النهاية، على الرغم من المظاهر الخادعة التي توحي أن الطغاة والاقطاعيين والفاسدين يتسيّدون هذا العالم، ومن يشك في هذا، فعليه مراجعة التاريخ جيداً والنظر بعين ثاقبة الى حركة التاريخ العميقة بعد ازالة القشور السطحيّة. عندها سيدرك أن هؤلاء لا يَعدون كونهم ممثلي كومبارس يؤدون أدواراً "قذرة" كي يسطع نجم الممثل الأول الذي يلعب دور البطولة ويتصدر صفحات التاريخ.

أيمن أبولبن
25-4-2014